حديث  أولي عن  المداورة  بدلا من التصريح   لغياب  الوعي الحداثي... وعن " الإشارة في تدبير الإمارة"  (3) د/ إشيب ولد أباتي

أحد, 2023-07-02 10:46

كان عنوان المقال الأول - من المقالات التالية -  عن " العلاقة بين العاطفة الدينية، والعاطفة التاريخية المندثرة"،  ولعله رفع منسوب  التشنج المضاعف،  ل(حماة) الأحساب، والانساب  الذين  يستنشقون الهواء السام في مقابر درست آثارها،  وعلى الرغم من ذلك فهم  يستعيضون  عن المفقود في حياة المجتمع، بتلك  الانتماءات الأثرية -  الانتروبولوجية - الموغلة في تاريخ الجماعات "الأولية" التي، عاشت في براري الصحراء الكبرى جنبا الى جنب مع اخوانهم  في الأدغال الافريقية، وكان موقع مجتمعنا جزءا  من تلك المناطق، ولذلك، فلا غرو أن تبقى موروثات الوعي الثقافي سلاحا  يدافع به البعض  عن وجود المجتمع المهدد، ولكن سلاح "وعيها"،  هو بمثابة  سيوف صدئة في مقابل وسائل الدفاع في معارك العصر.. !

ويخال للبعض  أنه واقف على هذا الجسر" الصوري" الرابط بين الجماعات الأولية في الأمس البعيد، ومجتمعات اليوم، ولكن مهما يكن، فإن حضورهم ، لا يعبر،  إلا عن  ظلال  في كهف ثقافتهم، او قل،  كحضور  المجسمات " البو" - بسكون الواو -  في الزرائب التي،  تعهدها اهل  الاغنام بهذا الخبأ لدفع  عاديات الزمن المباغتة..!

وأي قيمة تجنيها هذه الفئة،  أثرية "الوعي"  من  النبش في التاريخ العرقي  لمواجهة المتغيرات التي تشكل تحديا صارخا لوعي المجتمع -  ضمن  شبكة العلاقات المتخلفة التي يرسف في غلالها الفرد، والأسرة، والنظام السياسي - الذي يصوغ بمنطق "الدين القيم" للدفاع من جهة، بل لجلب  المنافع الضيقة ..؟

كما كان غياب الوعي عند الفئة..  مبررا  للدفاع عما يزعمه قادتها  واصلا لحلقات الامتداد في الزمن الفيزيائي الذي، تحسبه من التاريخ  -  وما هو من التاريخ  في شيء - الذي  مد جسوره في الحاضر  لتعزيز العلاقات الاجتماعية، ولإيقاظ الوعي الجمعي بما في التاريخ من مأثور الأحداث التي  تنشط الذاكرة  بالانتصارات على أعداء  المجتمعات العربية  في الثغور  المرابطة.. 

وشتان بين هذا الفهم، وبين محاولة البعض التعبير عن قصص لا تقرؤ،  ولا تسمع، ومن يتمسك بها  بمثابة من يرتدي الأسمال البالية، ويترنح في الأسواق معلنا عن نفسه كجزء من الماضي المجهول  إيغالا في ارعاب  الظام السياسي الذي هو أسير خوفه من نفسه، ومن  أعداء مجتمعه، وهو يتأرجح بين الاثنين، أما أن تفتح له نافذة على التاريخ، لاستنشاق عبقها،  سمومها، فلعل الأمر أخف الضررين ..!

لذلك  لا يناهض " الوعي الأثري"، إلا ناكري المفاضلة بين  الاحساب والانساب،  ولو انهم وصلوا  إلى مواقع التشريع الحقوقي يوما عابسا، نكد الحظ،  لأعطوا فيه حق الأصوات مضاعفة لأفراد ذوي الاحساب والانساب على حساب  غيرهم من الفئويات،  والأعراق الأخرى  في مجتمعنا..!

 ومن غرائب الأمور، وكبائر الجحود، أن حاملي وزر  هذا الوعي الأرتدادي،  عميت  بصيرتهم  عما يواجه المجتمع من تحديات، أقلها عدم الوعي بضرورة المساواة بين  المواطنين في الحقوق المدنية،  والسياسية، لذلك  لجأوا إلى إثارة النعرات العرقية الغائبة عن وعي المجتمع منذ أزيد من الف سنة، مقابل إقصاء ضجيج حركة المجتمع التي تصم الآذان بطبول الأخطار التي تحدق بمجتمعنا  حفظه الله من كل مكروه..!

و الى هذا الحد، كان سوء " التكيف" مع البيئة الاجتماعية الذي، أريد  منه   الأنحراف  بمثقفي المجتمع  عن مسارات السباق  الحضاري   بمجتمعنا من اجل طرق ابواب الحداثة، والمشاركة في صنع التقدم الاجتماعي والثقافي...

وسيبقى  المغيبون وعيا،  من مظاهر العوامل الأرتدادية  نحو  السحيق  من الماضي  الذي اعتقدوا  توهما صلة الحياة الاجتماعية به طالما  تمسكوا  هم  بجذوع  شجيرات  الأحساب، والأنساب الميتة، وان بقيت  اسماؤها تشكل الوانا  غامقة،  في تلك المواقع  الجغرافية على خريطة الوطن، لكن مطالب  المجتمع كفيلة بتشكيلها  بالوان "الوعي"  الوطني - القومي، الأبهى من كل الألوان متى، كان المجتمع العام، يمتلك حاسة النضج  الذي، يؤهله  للوعي، وللذوق الرفيع ..

2

كان عنوان كتاب ( أبي بكر ألحضرمي المرادي) مركبا من ثلاثة مفاهيم، هي : الإشارة؛ التدبير، الإمارة.

 - الإشارة، مصدر، والفعل " أشار"، ويقال: " أشارَ عليه بكذا: نصحه، أن يفعله مبينا ما فيه من صَوابٍ" - كما في معجم المعاني -

 - التدبير، مصدر،  والفعل "دَبَّرَ" يقال  دبر أُمُورَهُ : " فَكَّرَ فِيهَا وَخَطَّطَ لَهَا، سَاسَهَا : يصرِّف العوالم كلَّها بقدرته وحكمته"  ومن معاني الفعل :

" دَبَّرَ القَائِدُ خُطَّةً عَسْكَرِيَّةً : رَسَمَ أهْدَافَهَا" - معجم المعاني -

 

 - الإمارة: إسم،  والمصدر: أمار.

والإمارة: " جزء من الأرض يحكمه 

السلطان، أو من له الولاية العامة في البلد. (فقهية) "

ومثاله " مارَّ: (فعل) 

مَارَّ مِرَارًا، ومُمَارَّةً

مَارَّ الشَّيْءُ : اِنْجَرَّ

أَمَارَ أَهلَهُ: مارَهُم؛ أطعمهم "

- معجم المعاني - 

وأرجعت  مصادر التاريخ  تمسك قادة حكم ( المرابطون ) بمفهوم الإمارة  بدلا من الخلافة، ذلك أن يوسف بن تاشفين- رحمه الله تعالى - ، أشار  عليه أحد مستشاريه، بأن يسمى نفسه  بالخليفة، فقال له يوسف  إن خليفة المسلمين في (بغداد)،  وما أنا الا أمير من أمرائه، وهذه إشارة واضحة من هذا القائد العظيم  على وعيه  بالمعنى المحدد للمفهوم  - الإمارة -  وكذلك بوعيه بالتاريخ السياسي المشترك  منذ عصر "الولاة"على عهد حكم الأمويين.

 ودلالة  هذا الموقف  واضحة  في تمسك هذا  القائد التاريخي   بوحدة الحكم السياسي، و عدم قبوله بانفصال إمارة ( المرابطون) عن اجماع الأمة تحت قيادة الخليفة العباسي في بغداد بالعراق.

و البحث بخصوص" الإشارة" سيرد في الحديث  عن  المستشار،  لذلك نقتصر  على مناقشة المفهومين التاليين:  

١ - التدبير:

إنه مفهوم، خاص بعناوين الكتب السياسية على عهد  حكم ( المرابطون) في كتابي "   الإشارة في تدبير الإمارة"  وفي" تدبير المتوحد"، ل (بن باجاة)، بينما تم تداول مفهوم " السياسة"  في الفلسفة التي اهتمت بالسياسة العامة ، كاهتمام( افلاطون) بوضع تصوره لأنظمة الحكم، وتقسيمها  تقسيما قديما، ومعاصرا حسب  "نيتشه" الذي اعتبر كل الانظمة المعاصرة موجودة في " الجمهورية".

كما اهتم (ارسطو ) بتدبير " المنزل" و"المدن"،  كمدخل  لتحليله  للتجارب الدستورية لانظمة الحكم.

بينما في "المدينة الفاضلة" ، و "كتاب السياسة المدنية " للفارابي نقرؤ تقسيما مغايرا  لانواع " التدبير "على أساس المدن، وليس الدساتير.. 

 وقد وصم الفارابي  " المدن" بالصفات التي أخذها على سلوك القائمين، وعلى  التدبير  السياسي فيها، لذلك، اوضح  الغرض في  تعريفاته للمدن ، ك"المدينة الجاهلة"، و" المدينة الضالة"، و" المدينة الفاسقة" و" المدينة الفاضلة"..

و للدارسين  لفلسفة السياسية للفارابي، رأي في خلفية تمويه فكره السياسي  بالفلسفة، وباخلاق اهل المدن، إنما هو امعان في إخفاء  مواقفه السياسية، وذلك تجنبا  لنظم الحكم على عهده، وأنه قلد في ذلك (افلاطون) في تقديم فلسفته السياسية في محاضراته الأدبية تجنبا للمصير الماساوي ل (سقراط).

وقد حصر  الفارابي أنواع الاجتماع البشري  في "كتاب السياسة المدنية في "  الأمم، والأمة، المدن " واظهر تحكم  انظمة الحكم في مجتمعات الأمة   في المدينة، وعرض للتسلسل الهرمي للسلطة، حيث  الرئيس على الهرم  ، ويليه القادة  التابعون له، ثم اعوانهم، وأعوان  أعوانهم  في التسيير..

وكان ذلك  التنظير، او التوصيف للواقع  قبل تنظير  فلاسفة النهضة الأوروبيين، و توصيف علماء الاجتماع المحدثين،، 

٢ - الإمارة: 

واللافت للنظر،  أن كتابات كل من الفارابي، و(ابن سينا ) في - السياسة - ، لم يرد فيهما مفهوم " الإمارة" الذي حدد سلطاة الأمير على منطقة تابعة له، وفي مجتمع خاص من مجتمعات الأمة، وهذا الذي تفرد به  " ابو بكر الحضرمي" في كتابه..

 وتبقى الأسئلة  حول مضمون الكتاب، هل هو: تنظير  للاستجابة لمطالب مجتمع الكاتب حينئذ، وذلك في توجيه منه لسياسة الحكم بتصور عملي، بمعنى هل هو إيديولوجية  مكتملة؟

و بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار  تلك الآراء الموزعة في ثلاثين فصلا " يوتوبيا"  عبرت عن تطلع مجتمع (المرابطون)، في انجاح التجربة السياسية التي حكمته، او العكس عن الخلل الوظيفي الذي يعبر عنه ب  (الديستوبيا)  بدلا من التصور الطوباوي (اليوتوبيا).؟ 

وهل يمكن ان يفسر  لنا نجاح، أو اخفاق هذا  التنظير، تلك الرحلة التاريخية لأمير الإمارة الجنوبية  الى (مراكش)، وذلك في سبيل  انتزاع حكم( المرابطون) من يوسف بن تاشفين، تحت دعوى، أن الامير الجنوبي نال الحكم بقوة  الشرع - بحكم الوراثة -  باعتباره ابنا،  ل (بي بكر اللمتوني)،  وبالتالي، هو أولى بحكم  الإمارتين من  ابن عمه يوسف؟

(يتبع)