
عندما يصوّت مجلس الشيوخ الباكستاني بالإجماع لصالح دعم إيران في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، وتبدأ إسلام آباد – وفقًا لتقارير متقاطعة – بتزويد طهران بأنظمة دفاعية ومقاتلات ومسيرات، فإننا لا نشهد مجرد تقارب ثنائي بين بلدين جارين. نحن أمام ما يمكن اعتباره منعطفًا استراتيجيًا يعيد طرح السؤال الأهم في المشهد الإسلامي: هل بدأ تشكيل نواة مشروع أمني إسلامي مناهض للهيمنة الصهيونية؟
ما يلفت الانتباه في الموقف الباكستاني الأخير ليس توقيته فحسب، بل عمقه ودلالته. فالدعم العلني لطهران لم يكن ردّ فعل انفعاليًا، ولا انحيازًا أيديولوجيًا، بل قرار استراتيجي يُقرأ ضمن خارطة الصراع الأوسع، حيث تدرك إسلام آباد أن إسرائيل لا تستهدف إيران كدولة بعينها، بل تستهدف فكرة “الدولة الإسلامية المستقلة” من أساسها.
إن العودة إلى تصريحات بنيامين نتنياهو عام 2011، حين قال صراحة إن إسرائيل “ستمنع أي دولة إسلامية، بما فيها باكستان، من امتلاك السلاح النووي”، تكشف طبيعة هذا المشروع. فالصراع من منظور تل أبيب ليس حول الحدود أو الردع النووي، بل حول منع أي كيان مسلم من امتلاك مفاتيح قراره السيادي أو تطوير استقلاله التكنولوجي والعسكري.
الدولة الباكستانية لم تُقدِم على هذا الموقف في فراغ، بل بدافع مركّب يجمع بين ضغوط الداخل وتهديدات الخارج. فمن جهة، هناك وعي شعبي باكستاني متزايد يرفض التجاهل الرسمي لجرائم الاحتلال في غزة، ويطالب بمواقف حاسمة تليق بدولة نووية تنتمي إلى الأمة الإسلامية. ومن جهة أخرى، فإن التحالف الهندي-الإسرائيلي – خاصة في مجالات الاستخبارات والتكنولوجيا – يشكّل تهديدًا وجوديًا مباشرًا لباكستان، لا سيما في ملف كشمير.
ومن هنا، فإن تقارب إسلام آباد مع طهران ليس استعراضًا رمزيًا، بل انعكاس لتحوّل في العقيدة الأمنية الباكستانية نفسها، وانتقال من موقع الدفاع إلى منطق الردع الاستباقي، عبر بناء شراكات إقليمية جديدة، قد تفضي – في حال تطورها – إلى كتلة أمنية إسلامية تعيد تشكيل توازن القوى في جنوب غرب آسيا.
في المقابل، يبدو العقل الرسمي العربي – وتحديدًا في القاهرة والرياض – مستغرقًا في خطاب “الاستقرار” و”الحياد”، وكأن التحولات الجيوسياسية الجارية لا تعني العواصم العربية، أو كأن المشروع الصهيوني سيتوقف عند حدود إيران وباكستان.
المفارقة أن بعض الدول العربية لا تزال تصر على تصوير إيران كتهديد أول، وتُهمل حقيقة أن إسرائيل نفسها لم تعد تُخفي نواياها تجاه العمق العربي. فالمعادلة التي تروّج لها تل أبيب تقوم على تطويق العالم الإسلامي عبر تحالفات هندية وإفريقية، لا تستثني أحدًا من دائرة الاستهداف.
والسؤال المؤلم: هل تنتظر هذه العواصم أن تُعلن إسرائيل – كما أعلنت بشأن باكستان – أن القاهرة أو الرياض هي الهدف التالي، كي تُعيد النظر في أولوياتها؟
ما يجب أن يُفهم من هذا التقارب الإيراني-الباكستاني أن جوهر الصراع اليوم لا يدور حول السلاح النووي، بل حول بنية الإرادة. إسرائيل لا تخاف من القنبلة بقدر ما تخشى من تشكّل عقل سياسي إسلامي قادر على تجميع عناصر القوة، وإدارتها ضمن مشروع مستقل.
فإذا ما تُرجم التعاون بين طهران وإسلام آباد إلى تنسيق دفاعي وتقني مشترك، فإننا نكون أمام بداية حقيقية لإعادة تعريف الأمن القومي الإسلامي، ليس باعتباره ملفًا سياديًا داخليًا، بل كقضية أمة برمتها، تحتاج إلى إطار جامع، يُعلي من منطق التكامل بدل التنازع.
الدرس الذي تقدمه باكستان اليوم، أن الضغط الشعبي قادر على دفع النخب السياسية لاتخاذ قرارات حاسمة، وأن الخطر المشترك يمكن أن يتحول إلى فرصة لبناء كتلة مقاومة للهيمنة. لكن هذه اللحظة لا يمكن أن تتحول إلى مشروع دائم ما لم تُدرك بقية العواصم الإسلامية أن تفادي المواجهة لا يُجنّب الخطر، بل يسرّع قدومه.
ما تحتاجه الأمة اليوم ليس فقط أسلحة أو تحالفات مؤقتة، بل عقيدة استراتيجية جديدة، ترى في الاستقلال مشروعًا طويل الأمد، وفي التعاون الإسلامي ركيزة أساسية لبناء توازن دولي جديد، ينهي عقود التبعية، ويمنح الشعوب حق الدفاع عن كرامتها ووجودها.
فالتحرر لا يُنتظر من مراكز القرار الغربي، بل يُصنع في لحظة وعي، حين تدرك الأمة أن قوتها الحقيقية تبدأ حين تكتب مصيرها بيدها.
د. معن علي المقابلة باحث وناشط سياسي/ الاردن