ا

اثنين, 2021-01-11 22:13

تشكل فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب علامة متميزة في تاريخ دولة الولايات المتحدة الأمريكية الذي بدأ عام 1783 بعد حرب الاستقلال ضد الإمبراطورية البريطانية، وقد ولدت تلك الدولة بحجم محدود 13 ولاية وقوة بشرية لا تزيد على الأربعة ملايين نسمة، وكانت تلك النواة التي نمت بسرعة هائلة لتضم 50 ولاية وتعداد سكاني يناهز 330 مليون نسمة سنة 2020، و لتصبح ما يعتبره الكثيرون أعظم قوة في العالم وأغناها خلال فترة لا تتعدى 150 عاما، واستطاعت رغم حربين عالميتين وسلسلة حروب أصغر أن تحتفظ بتفوقها وقوتها بعد 238 سنة من نشأنها.

بأي صورة سيدون التاريخ فترة حكم الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة؟. لا أحد يستطيع أن يقدم جوابا جازما في الزمن الحاضر، لأن التجربة الإنسانية قد بينت أن المنتصرين هم في الغالب من يكتبوا التاريخ.

البعض يحاول نقد فكرة أن المنتصرين هم من يكتب التاريخ ولكن مراجعة بسيطة تثبت العكس فالتاريخ يتحول إلى ألعوبة في أيدي المنتصرين، وأيضا في أيدي الكذابين، لذلك كثيرا ما قيل إن التاريخ يكتبه المنتصرون، والمنتصرون يكذبون، بل يكذبون أكثر من اللازم لأنهم يخفون كل فظائعهم أو يلصقونها بالمنهزمين، والمنهزم ميت، والميت لا يدافع على نفسه.

الأزمة السياسية التي تتخبط فيها الولايات المتحدة بسبب الخلاف حول نتائج الانتخابات الرئاسية لشهر نوفمبر 2020 ستترك آثارا متنوعة قد يزول بعضها مع مرور الوقت وستفرض نقاشات حول ضرورة إصلاح النظم الانتخابية خاصة تلك التي وضعها المؤسسون الذين رغبوا في خلق أداة تمكن من التحكم في إرادة الناخبين الذين يصفهم البعض بالغوغاء.

سبيل رحمن، رئيس منظمة "العمل الديمقراطي" غير الربحية يوضح: "كان الغرض من وراء القانون الانتخابي النأي باختيار الرئيس بعيدا عن السيطرة الشعبية الديمقراطية، ويعزى ذلك جزئيا إلى سلطة الولايات التي كانت تسمح بامتلاك الرقيق، ومن ثم كان جائرا منذ بدايته".

تقدم مؤكد

تقدم بايدن على ترمب بعدد أصوات كبير للغاية تجاوز 5 ملايين صوت في التصويت الشعبي، وهو نتاج فرز عدد أصوات الناخبين بكل بساطة. حصل بايدن على 81.283.485 صوت شعبي مقابل 74.223.744 لترامب. 

إذ إن التصويت الشعبي هو ما يعمل به في أغلب الأنظمة الديمقراطية، ولكن ليس في الولايات المتحدة. تحدد نتيجة الانتخابات في الولايات المتحدة عن طريق المجمع الانتخابي: وهو نظام غامض ملتو يجري فيه اختيار الرئيس ليس عن طريق إرادة الشعب، بل بطريقة غير مباشرة من خلال كمية أصوات تبلغ 538 صوتا تمنح كل ولاية نسبة منها.

إضافة إلى عيوب المجمع الانتخابي، فإن لكل ولاية الحق في تحديد نظام التصويت، الأمر يؤدي إلى نظم انتخابية في بعض الولايات تهمش الأقليات.

وتجدر الإشارة إلى أن هيلاري كلينتون حصلت في 2016 على أصوات أكثر من دونالد ترمب بحوالي 3 ملايين صوت في التصويت الشعبي، خلال انتخابات انتهت بوصول ترمب برغم ذلك إلى رئاسة الولايات المتحدة لأنه حصل على أغلبية أصوات المجمع الانتخابي.

هذا الأمر لم يثر هزة وتقبله الرأي العام الأمريكي بهدوء في حينه، الأمر اختلف سنة 2020 رغم أن الفوز منح للذي حصل على تفوق في الأصوات الشعبية وكذلك في المجمع الانتخابي وكانت الفوضى خاصة وأن المهزومين أي أنصار ترمب يشعرون أن هناك تزويرا نظمته قوى الدولة العميقة التي قدرت أن ترمب لم يعد يصلح لتطبيق سياساتها.

تياران

صحيفة الصانداي تليغراف البريطانية نشرت تقريرا قالت فيه: 

فترة ترامب ستبقى واحدة من أكثر الفترات إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، بدءا من الحشد الذي حضر حفل التنصيب سنة 2017 حتى لقائه مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون مضيفا إن "ترمب شق طريق في فترة رئاسته بالخداع والحيل وبشكل فريد من القيادة التي صدمت حتى أكثر مراسلي البيت الأبيض خبرة".

ويشير التقرير إلى أن فترة ترمب شهدت محاولة نادرة لمحاكمة الرئيس بغرض خلعه من منصبه علاوة على وباء عالمي نادر تفشي في العالم بأسره وضرب الولايات المتحدة في العام السابق للانتخابات وحتى الآن وإذا أضفنا إلى ذلك تسريب مكالمته مع سكرتير مجلس ولاية جورجيا في محاولة لقلب نتيجة فوز جو بايدن بالانتخابات وأصوات الولاية.

ويضيف التقرير "كل هذا أدى إلى الفوضى التي شاهدتها البلاد في النهاية بعدما اقتحمت عصابة غاشمة من مؤيدي ترمب مبنى الكونغرس في منطقة كابيتول هيل في محاولة لمنع إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية".

هل تبقى "الترامبية"؟

مقابل تحليل الصحيفة البريطانية يرى الباحث د. أسعد عبدالرحمن في مقال له نشر يوم الجمعة الأول من يناير 2021:

طوال سنوات حكمه الأربع وصف كثيرون تصرفات الرئيس ترمب بالابتزازية والاستفزازية، ومواقفه بقدر من الجهل، مع أن الأمر الواضح والأكيد أن الرجل يعرف ما يفعله في الداخل الأمريكي. فلقد تبين أن تركيزه الأول والأخير كان ولا يزال منذ سنوات يستهدف تعزيز صلاته مع قاعدته الجماهيرية والانتخابية، مصدر قوته.

ومن الواضح أن هذه القاعدة الشعبية بمكوناتها "أفلنجيكية، دعاة تفوق العرق الأبيض، حركة اقتناء الأسلحة، حركات اليمين واليمين المتطرف" تشكل تقريبا نصف المجتمع الأمريكي.

لقد نجح ترمب في مهمته تلك بدليل حصده أكثر من 74 مليون صوت وهو أعلى رقم لمرشح خاسر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وهو -كما يتباهى- رقم أعلى مما حصل عليه الرؤساء الأمريكيون الثلاثة الذين سبقوه وطبعا غيرهم. وفورا، وظف الرئيس الأمريكي بدهاء هذا الأمر لينكر خسارته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فبدل أن يعترف سريعا بالخسارة، ومن ثم يصبح عاريا أمام جماهير وقيادات الحزب الجمهوري وأمام قيادات الحزب الديمقراطي الذين "سيأكلونه"، استند على هذه الأصوات الـ 74 مليونا ليبقوا وراءه داعمين له سياسيا. والدليل على هذا أن 68 في المئة من جمهور الحزب الجمهوري يؤمنون بأن الانتخابات الرئاسية مزورة وأنها باطلة وقد سرقت من ترمب ومنهم.

لقد أصبح هؤلاء أتباعا شخصيين لقيادة ترمب الشعبوية، والشعبية أيضا بمعنى معين، أكثر مما هم أعضاء أو مؤيدون للحزب الجمهوري. بل يمكن اعتبار أن ترمب ترشح عمليا من خارج الحزب بعد أن عرف كيف يجند الأعداد الكبيرة المؤيدة له من خلال اهتمامه بالقضايا التي تهم هذا الجمهور. لقد عرف كيف يعزف عليها يوم نجح بالفوز بترشيح الحزب الجمهوري ولجم كل القادة الجمهوريين الذين كانوا يسخرون منه، ثم متن علاقته مع هؤلاء الأتباع طوال الوقت وكرس وقته لتقوية نفسه في هذه الأوساط التي يعبر هو عنها وعن مخاوفها وعن جنونها أحيانا وعن تعصبها أحيانا كثيرة… إلخ. فلقد شكل هؤلاء الأتباع القاعدة الجماهيرية لـترمب ومن ثم سلاحه الفعال في مواجهة القادة الجمهوريين الآخرين. ويمكن القول إنه -عمليا- أكمل اختطاف ليس الحزب فحسب بل القاعدة الجماهيرية، حين لم يعترف بنتائج الانتخابات "المزورة" مقنعا تلك "القاعدة" بذلك على عكس كل ما يقول به المنطق والمحاكم وحتى وجدان القادة الجمهوريين أنفسهم قبل الديمقراطيين.

بهذه السياسة كرس ترمب نفسه زعيما وقائدا وآمرا لا منازع له في الحزب الجمهوري، بل وصانع أقدار المرشحين الجمهوريين بحيث يسقط هو من يشاء ويعلي شأن من يشاء. وبناء عليه هو الآن، بهذه القوة، إذا ما شاء رشح نفسه أو من يريد للرئاسة الأمريكية 2024، سواء كان وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو أو نائبه الحالي مايك بنس أو من يختاره لاحقا. كذلك، مازال ترمب يراهن على أنه سيملك "فيتو" في وجه سياسات الديمقراطيين ورئيسهم جو بايدن.

هذه الوقائع كلها، إن كانت تنبئ بشيء فإنها تنبئ بأن ترمب قد نجح في بناء حركة سياسية داخل المجتمع الأمريكي، وأنه هو رئيسها وزعيمها ومقررها، وهذا يدل بالتأكيد على أنه ليس شخصا أحمق كما يردد البعض. فمن يعرف ما يريده نصف الشعب الأمريكي ويصبح هو مجسدا له ليس أحمقا. والذي ينجح في الحصول على ملايين أصوات الشعب ليس أحمقا. والذي جمع ما زاد على 210 ملايين دولار "للمعارك القانونية" التي أعقبت التصويت في الانتخابات ليس أحمقا. والذي يكرس رغم خساراته الواضحة في الانتخابات ولاء ملايين الأصوات وبقاءها معه وإلى جانبه ويسيطر من ثم على الحزب الجمهوري وعلى الشارع السياسي هو بالتأكيد ليس أحمقا.

جرس إنذار

يوم الأحد 10 يناير 2021 حذر جوزيب بوريل، مسؤول العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي من نزعات مناهضة الديمقراطية بين ساسة كبار على مستوى العالم.

وكتب السياسي الإسباني في مدونة: "هناك في العالم كله قادة سياسيون في المعارضة وبشكل متنام أيضا في السلطة، لديهم استعداد لتقويض مؤسسات ديمقراطية" دون أن يشير إلى أمثلة محددة.

ورأى بوريل أن النجاح المثير للقلق "لخصوم الديمقراطية" يرجع إلى ارتفاع عدد المواطنين الذين يشعرون أنهم لا يتمتعون بالحماية  أو لا يحظون بالاحترام على نحو كاف.

وأعرب بوريل عن اعتقاده بأن عوامل أخرى مثل الاختلال الاقتصادي وقصور الرقابة على الشركات المتعددة الجنسيات والملاذات الضريبة الآمنة والتهرب من الضرائب ساعدت أيضا على حدوث هذا التطور.

وأضاف بوريل في تدوينة "ما رأيناه يوم الأربعاء "الهجوم على الكونغرس الأمريكي" لم يكن سوى ذروة التطورات المقلقة للغاية التي حدثت على مستوى العالم في السنوات الماضية. يجب أن تكون جرس إنذار لكل أنصار الديمقراطية".

وذكر بوريل الذي يتحدث باسم تكتل من 27 دولة هي أعضاء الاتحاد الأوروبي، "على الجميع أن يدرك أنه إذا قبلنا الانتكاسات بعد الانتكاسات، حتى لو بدت بسيطة، فإن الديمقراطية وقيمها ومؤسساتها يمكن أن تتلاشى في نهاية المطاف وبشكل لا رجعة فيه".

وأضاف بوريل "إذا كان لدى أي شخص أي شكوك في هذا الأمر، فإن ما جرى من أحداث في واشنطن يظهر أن المعلومات المضللة تشكل تهديدا حقيقيا للدول الديمقراطية". "إذا اعتقد بعض الناس أن الانتخابات كانت مزورة، لأن زعيمهم يخبرهم بذلك مرارا وتكرارا، فسوف يتصرفون وفقا لذلك".

ودعا بوريل إلى لوائح تنظيمية أفضل على مواقع التواصل الاجتماعي، قائلا إن هذا لا يمكن أن تقوم به الشركات صاحبة تلك المواقع بنفسها.

الباحث في الشؤون الأمريكية، بوريس ميغويف صرح: "أظهرت نتائج تصويت المجمع الانتخابي، مرة أخرى، أن البلاد منقسمة إلى نصفين متساويين تقريبا. لقد تطور وضع غير مستقر، بل متوتر للغاية، في الولايات المتحدة. تتولد عنه أسئلة حول كيفية تحقيق خطط العولمة بالاعتماد على الولايات المتحدة، التي تعاني انقساما داخليا لا مثيل له في أي دولة رائدة في الغرب".

وأشار ميغويف إلى أن رئيس الحزب الجمهوري في تكساس ألين ويست، اقترح في وقت سابق، ردا على قرار المحكمة العليا الأمريكية رفض طلب مراجعة نتائج انتخابات الثالث من نوفمبر، تشكيل "اتحاد ولايات" يلتزم بمبادئ الدستور الأمريكي.

وأضاف ميغويف: "من المهم جدا أن تكساس، التي تطلق على نفسها اسم ولاية النجمة الوحيدة، هي بالذات التي بادرت إلى هذه الفكرة. الوعي الذاتي الإقليمي، نام بقوة في الولايات المتحدة. وهو، في حالة تكساس، يستند إلى نزعة محافظة متطرفة".

وأشار ميغويف إلى أن أحدا لن يسمح الآن لتكساس بالانفصال، لأنها "مركز قوي جديد للولايات المتحدة، بما في ذلك في مجال الفضاء". لكن في المستقبل، سينطلق تعزيز الجناح المحافظ في أمريكا، من تكساس بالذات، وسوف يزداد الانقسام.

فرص الثورة

في موسكو كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف:

حملت الانتخابات الرئاسية الأمريكية طابعا مصيريا للمعسكرين المتنافسين.

فالتغيرات الديموغرافية، أي انخفاض نسبة البيض بين سكان الولايات المتحدة الأمريكية، سوف تحرم الجمهوريين للأبد من فرصة الوصول إلى السلطة على المستوى الفدرالي، أو على الأقل الجمهوريون بشكلهم الحالي.

يخطط الديمقراطيون لمنح الشرعية لـ 11 مليون مهاجر غير شرعي، وجعل بورتوريكو ولاية أمريكية، وزيادة عدد قضاة المحكمة العليا، وتعيين الديمقراطيين هناك. بشكل عام، ونظرا للانخفاض المستمر في نسبة البيض، فلن يتمكن الجمهوريون مرة أخرى من الصعود أعلى من مستوى بعض الولايات الفردية في أي من أفرع السلطة.

لقد حرمت انتخابات الخامس من يناير 2021، على مقعدي عضوين جمهوريين من مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، الجمهوريين من السيطرة على مجلس الشيوخ، وأصبحت الآن هزيمتهم نهائية باتة، وستصبح الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان الجمهوريون يعرفونها، شيئا من الماضي البعيد، الذي سيختفي للأبد عقب تولي بايدن منصب الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فقد أصبحت القضية بالنسبة للجمهوريين من النخب والمؤيدين هي قضية حياة أو موت.

بالنسبة للحزب الديمقراطي، فإن التغيرات الديموغرافية، للوهلة الأولى، تبدو أمرا إيجابيا لا لبس فيه، حيث ترتفع نسبة الأقليات القومية، وستستمر في الارتفاع لعقود قادمة. الآن تصوت تلك الأقليات لصالح الحزب الديمقراطي، ما يعني أن الديمقراطيين سوف يحكمون للأبد. يبدو الأمر، وكأنه لا داعي لمحاربة ترمب إذن بهذه الضراوة، وفي نفس الوقت دفع البلاد نحو شفا الحرب الأهلية.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. فالديمقراطيون اليوم هم مجموعة غريبة من الأقليات العرقية والليبراليين البيض وأنصار الاشتراكية. بالإضافة إلى ذلك، ينقسم القادة الديمقراطيون إلى مجموعتين، فمن ناحية يوجد من هم الآن في السلطة بالحزب الديمقراطي، الممثلين عن قطاع رأس المال الضخم، وكبار السن البيض، الذين يبلغ متوسط أعمارهم أعلى حتى بكثير من متوسط عمر حكومة بريجنيف قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. ومن ناحية أخرى يوجد الممثلون عن الشباب من الأقليات العرقية، من ذوي الرؤى اليسارية. بمعنى أن انقسام الحزب الديمقراطي نفسه إلى حزبين أو إلى أحزاب جديدة هو أيضا أمر لا مفر منه بمرور الوقت ومن حيث المبدأ.

ومع ذلك، فإذا خسر الديمقراطيون الآن، فإن الحزب الديمقراطي كان سوف ينقسم الآن، بينما ستتحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى لبنان عملاق، لا تتمتع فيه أي من القوى السياسية بالقوة الكافية لتولي السلطة بمفردها، ويكاد يكون التحالف بين هذه القوى السياسية مستحيلا على نحو مطلق، لعدم توافق الأهداف والأجندات السياسية، وهو عدم توافق يفوق نظيره في لبنان بمراحل. والفوضى المحتملة إثر ذلك تحتاج لمناقشة مفصلة.

في الوقت نفسه، فبالنسبة للقيادة القديمة للحزب الديمقراطي، أصبحت الهزيمة الآن هي الأخرى قضية حياة أو موت بالمعنى السياسي، ولن يكون لديهم فرصة أخرى للوصول إلى السلطة.

لذلك فالصراع الذي نراه اليوم هو صراع بقاء ليس محوره الحياة قدر ما محوره الموت.

كل ذلك يدفعنا إلى إلقاء نظرة فاحصة على خطوات ترمب الأخيرة. فقبل شهر من انتهاء ولايته، استبدل وزير الدفاع بوزير ممن يدينون له بالولاء، كما أقال المدعي العام السابق لرفضه التحقيق في الاحتيال المزعوم. وقد رأينا بوضوح خطوات التقدم بالطعن في 18 ولاية على رأسها ولاية تكساس، أمام نتائج انتخابات المحكمة العليا. كما نرى مجموعات من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين يرفضون الاعتراف بانتصار بايدن. أي أن النخبة الجمهورية، إن لم يكن بالكامل، فإلى حد كبير، كانت متماسكة حول ترمب. وأعتقد أنهم على دراية بثمن القضية وبآفاقهم السياسية ومصممون بإصرار حتى اللجوء للقوة لحل القضية.

لقد بدا واضحاً أن ترمب ربما كان يستكشف إمكانية استخدام القوة العسكرية، من الرسالة المفتوحة التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست في 3 يناير 2021، نقلا عن وزراء دفاع سابقين، يحثون فيها ترمب على عدم استخدام الجيش في محاولاته لمنع نقل السلطة إلى بايدن.

كما أن تنظيم مظاهرة لأنصار ترامب يوم الاربعاء، 6 يناير، في نفس يوم المصادقة على نتائج التصويت، لم يكن مصادفة. أعتقد أن خطة ترمب كانت أن يرفض نائب الرئيس مايك بنس، التصويت على الانتخابات لأسباب رسمية، بصفته رئيسا لمجلس الشيوخ. بعد ذلك كان يتعين على حشد المؤيدين تحييد أي محاولات من قبل الديمقراطيين لمقاومة مثل هذا التطور للأحداث. لذلك لم يكن اقتحام الكونغرس، على الأقل، مستبعدا.

ومع ذلك، فإن خيانة نائب الرئيس، بنس، وعدم استعداد الجيش لدعم ترمب أحبطت هذه الخطة. وربما كان السبب أن دونالد ترمب نفسه لم يقرأ لفلاديمير لينين، الذي كتب أن التأخير في الاستيلاء على السلطة الكاملة والقضاء على المعارضين يعني هزيمة الثورة.

لم يذهب ترمب نحو التصعيد، ولم يتوجه إلى الشعب، ربما لهذا السبب خسر ترمب شخصيا بالفعل. من الممكن كذلك أن يحاكم الديمقراطيون الرئيس ترمب شخصيا، مؤكدين من جديد تحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى دولة من دول العالم الثالث...

هل هذا يعني وقف انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية قطعا لا، بل على العكس.

 

نضج عوامل الأزمة

 

دائما ما كنت ولا زلت أتوقع أن انهيار الولايات المتحدة الأمريكية سوف يحدث في السنوات العشر القادمة. 

هناك لذلك ثلاث معطيات أساسية، ثلاثة عوامل، لكنها في درجات مختلفة من النضج، وحتى الآن لم تتطور لتصبح سببا مثاليا عاصفا. 

فسوف تنضج العوامل العرقية والديموغرافية بالكامل لتصل إلى 100 في المئة في غضون 20 عاما، عندما يصبح البيض أقلية في الولايات المتحدة. على مستوى السياسة الخارجية، ستنتقل زعامة العالم إلى الصين، وهو عامل سينضج خلال 10 سنوات "في غضون 5 سنوات ستتفوق الصين على الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا، وفي غضون 15 عاما في المجال العسكري". تعتبر الأزمة الاقتصادية وانهيار هرم الديون والدولار كعملة عالمية هي الأصعب تنبؤاً، فمن الممكن أن يحدث ذلك في غضون عام، أو في غضون خمسة أعوام، وربما حتى بعد ذلك. وهي الأزمة التي ستؤدي إلى تفاقم كل الأزمات الأخرى.

في غضون 5 إلى 10 سنوات، وعلى الرغم من أن نضج الأزمة العرقية قد يكون قد وصل إلى 70 في المئة، والسياسة الخارجية بنسبة 80 في المئة، والاقتصاد بنسبة 90 إلى 100 في المئة، فإن هذه الأزمات مجتمعة ستكون قاتلة تماما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

إننا نشهد الآن بالفعل أشياء غير مسبوقة تماما، فاستقرار الولايات المتحدة الأمريكية يتزعزع، بينما تتحول الولايات المتحدة بسرعة إلى فنزويلا.

فما الذي سيحدث بعد ذلك؟ لقد قلت بالفعل إن أحد العوامل الحاسمة للانتقال إلى تصعيد المواجهة، هو إدراك الجمهوريين والمحافظين البيض بشكل عام حقيقة أنهم فقدوا السلطة على المستوى الفدرالي للأبد. دوما وإلى الأبد. فلو كان الجمهوريون احتفظوا بالسيطرة على مجلس الشيوخ، كان إدراك ذلك سيستغرق دورة انتخابية أخرى. لكنهم خسروا مجلس الشيوخ، وهو ما أدى إلى تسريع العملية بشكل كبير.

ولكن هنا أيضا، هناك عاملان يمنعان التصعيد.

النخبة القديمة والنائمة والتي قضت كل حياتها في أوقات السلم والاستقرار، والعاجزة عن العمل الحاسم، بينما كان لدى الديمقراطيين جيل أصغر من القادة تقريبا، بما في ذلك أثناء أعمال الشغب المرتبطة بحركة "حياة السود مهمة". ليس لدى الجمهوريين ذلك الجيل من الزعماء، فقد أظهر القادة الجمهوريون، بمن فيهم حتى ترمب، عدم قدرتهم على التصرف بشكل حاسم عند نقاط التحول في التاريخ، كان هؤلاء هم كبار السن، الذين يريدون أن يتموا بقية حياتهم في الاستقرار في مناصبهم. 

من المحتمل أن يحدث العداء بين المعسكرين على شكل عمليتين: النضال والتنظيم الذاتي لـ "الشارع" الجمهوري، وتوحيد النخبة الجمهورية على مستوى الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون، والتي قد لا تعترف بالقرارات الفردية للحكومة المركزية. وستمنح هذه العمليات الجمهوريين قادة جددا، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت، ربما سنة أو سنتين. إذا اتهم الديمقراطيون الآن ترمب بالانقلاب واعتقلوه، فسوف تسير هذه العملية على نحو أسرع.

والعامل الثاني، فعلى الرغم من المشكلات الاقتصادية المتصاعدة، لا يزال غالبية سكان الولايات المتحدة الأمريكية يعيشون على مستوى جيد للغاية، بحيث لا يمكنهم النزول إلى الشوارع. والجمود كبير للغاية، ولا زالت الإعانات الحكومية تعوض الدخل المفقود. لكن هذا لن يستمر طويلا، بحد أقصى عدة سنوات أخرى.

وهكذا نرى أن الوضع لم يكن قد نضج بما فيه الكفاية قبل العاصفة المثالية، وفرص النجاح في اقتحام الكونغرس كانت قليلة.

ولا تزال هناك فرصة ضئيلة لاستمرار أو تصعيد الاحتجاجات الحالية إلى شكل حرب أهلية أو انهيار للولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أن الأحداث يمكن أن تتطور بشكل أسرع إذا تدهور الوضع الاقتصادي بشكل حاد. كل ما علينا هو شراء المزيد من الفشار، ومشاهدة هذا العرض المثير للغاية.

 

تقلص شريحة سكانية

 

تراجع معدل الخصوبة في الولايات المتحدة خاصة في وسط السكان البيض إلى أدنى مستوياته منذ 35 عاما وهو ما له أبعاد سياسية، إذ إن العدد الإجمالي للسكان ازداد بنسبة 0.4 في المئة فقط في 2020 ليصبح 329 مليونا- أقل معدل نمو سكاني منذ عام 1900. 

أفاد تقرير صادر عن مركز السيطرة على الأمراض بأن معدلات الولادة في الولايات المتحدة قد انخفضت مرة أخرى في عام 2018، مما يجعلها السنة الرابعة على التوالي التي انخفضت فيها معدلات المواليد بالبلاد، ومع ذلك لم ينخفض إجمالي عدد السكان بسبب الهجرة. 

وتكشف البيانات التي أوردتها مجلة نيوزويك أنه كانت هناك ثلاثة ملايين و791 ألفا و712 ولادة بالولايات المتحدة في عام 2018، أي بنسبة 59.1 ولادة لكل ألف امرأة تتراوح أعمارهن بين 15 و44 عاما.

ويمثل هذا الإحصاء انخفاضا قياسيا آخر للبلاد. وفي حين انخفض معدل المواليد 3 في المئة للنساء المكسيكيات في الولايات المتحدة في عام 2018، فقد ارتفع 1 في المئة لنساء بورتوريكو وأمريكا الوسطى والجنوبية.

وذكرت المجلة أن النساء ينتظرن أيضا فترة أطول للإنجاب في أمريكا. وفي عام 2017 كان متوسط سن المرأة التي تنجب أول طفل 26.6 عاما وزاد الرقم إلى 26.8.

ووفقا لمركز بيو للأبحاث فإن من بين جميع الولادات التي سجلت للنساء المهاجرات في عام 2018، كان نصفهن من أصل إسباني. وفي الوقت نفسه ارتفعت نسبة المواليد بين النساء الآسيويات إلى 24 في المئة في العام  نفسه، بزيادة 5 في المئة مقارنة بعام 2000. وشكلت الولادات للنساء السود 11 في المئة من مجاميع عام 2018.

ومع ذلك لا يزال معدل الخصوبة الإجمالي للولايات المتحدة أقل من المستوى الذي يمكن أن يستبدل فيه الجيل نفسه. وتعتبر مستويات الإحلال عموما 2100 ولادة لكل ألف امرأة. وكان سكان هاواي الأصليون أو غيرهم من سكان جزر المحيط الهادئ هم التكاثر الديموغرافي الوحيد فوق معدل الاستبدال.

 

ضربة لقوى الشعبوية اليمينية

 

يقدر بعض المحللين أن هزيمة الرئيس ترمب شكلت ضربة للسياسيين الذين يتخذون العنصرية والشعبوية طريقا لهم.

وفي مقال نشره موقع "إي بي جي"، قال الكاتب ماركو بيشناو: إن "الشعبوية المقننة التي أغرقت قبل بضع سنوات، نصف العالم، في ارتباك لا يمكن تصوره، تبدأ اليوم بالتراجع".

وأضاف: "نتذكر كيف استعد الشعبويون على جانبي شمال المحيط الأطلسي لاقتحام المؤسسة السياسية باسم المنسيين والمهمشين، ضد الحكومات التي تركز فقط على مصالحها الخاصة، وتعامل الناس بفظاعات باسم الحداثة".

وأشار "بيشناو" إلى أنه "مع الانتصار الانتخابي لترمب عام 2016، وانهيار العديد من المحظورات، بدا أن الديمقراطيين الليبراليين في الشرق والغرب سيستسلمون حتما لهجمة هذا الغضب المستمر والمتزايد".

ولفت إلى أنه "بعد مرور 4 سنوات، كل شيء يشير إلى خلاف ذلك، حيث يقع اليمين الشعبوي الذي كان لا يقهر في يوم من الأيام تحت العبء الثقيل المتمثل في تلبية توقعاته وتوقعات ناخبيه".

واعتبر أنه "في السنوات الأخيرة، كان أداؤهما "اليمين الشعبوي والديمقراطيون" سيئا بشكل واضح، ففي فرنسا، حيث اعتقدت رئيسة "حزب الجبهة الوطنية"، مارين لوبان، نهاية 2016، أن لديها أفضل فرصة، على ركوب نمر الشعبوية، لتحل محل الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي كان ضعيفا في ذلك الوقت، كرئيس للدولة". 

واستدرك بيشناو: "لكن ظهر الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ومعه تحول في معسكر القوى الوسطية، والتي على الرغم من احتجاجات السترات الصفراء، أرست الأساس لاستمرار عجز الشعبويين".

وفي أقصى الجنوب، في إيطاليا، كان على "رابطة الشمال" المعادية للأجانب أن تودع مقاعدها في الحكومة قبل الموعد المحدد، بينما في سويسرا، يواجه حزب "الشعب" المعارض المتشدد للانضمام إلى أوروبا، ضياع فرصة تلو الأخرى.

وفي الدنمارك، وفقا لاستطلاعات الرأي، يعاني حزب "الشعب" من انخفاض بنسبة 50 في المئة في التصنيفات، فيما في ألمانيا، كاد حزب "البديل من أجل ألمانيا" أن يفقد موطئ قدمه.

وذكر "بيشناو": إن "ترمب، تاجر العقارات في نيويورك، تعرض لأول مرة في تاريخ الرؤساء الأمريكيين منذ 30 عاما، لانتكاسة كبيرة في محاولته للاحتفاظ بمقعده في البيت الأبيض".

وأشار إلى أن "حقيقة أنه لم يحصل أي شخص من قبل في تاريخ الولايات المتحدة كمعارض للرئيس الحالي على عدد الأصوات مثل المرشح الديمقراطي جو بايدن الذي تحدى ترمب في 3 نوفمبر 2020".

والشيء المثير للاهتمام هو أن الرئيس المنتهية ولايته، انهار في ضواحي مناطق حضرية كبيرة، وفقد الدعم في "جورجيا وأريزونا"، وهما ولايتان جمهوريتان رئيسيتان.

وأوضح "بيشناو" أنه "في حالة ترمب، وصل الإدراك على نحو متزايد بأن العديد من المخاوف الأولية من الشعبوية اليمينية كانت مبالغا فيها بشكل غريب".

واستغرب الكاتب من تسمية إدارة ترمب بـ"العظيمة"، قائلا: "على العكس من ذلك، كانت المشاريع الناجحة الوحيدة هي الإصلاح الضريبي، الذي زعزعته العديد من الفضائح والافتقار إلى المواهب في التنفيذ على مستوى الخدمة الروتينية".

واعتبر أنه "بالنسبة للقوى الشعبوية اليمينية في أوروبا، كانت هزيمة ترمب في المقام الأول ضربة ملموسة أخرى للصراع الدعائي، وفقدان شخصية ذات قيمة رمزية إلى حد ما".

وختم "بيشناو" مقاله بالقول: "بالنسبة للولايات المتحدة، يبقى أن نرى إلى أي مدى سيتمكن الجمهوريون من تسوية الميل نحو الشعبوية المقننة، وأحيانا نظريات المؤامرة في حقبة ما بعد ترمب".

 

عمر نجيب

[email protected]