عالم يتلمس طريقه وسط عواصف من الأزمات والحروب.... هل يتمكن المعسكر الغربي من الاستمرار في الهيمنة أمام تحديات عسكرية واقتصادية وسياسية متشابكة ؟

أربعاء, 2025-12-31 03:00

يمر العالم مع دخول النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين بفترة انتقالية ستتحدد خلالها الموازين المتطورة للقوى الدولية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وكذلك شكل النظام الذي سيحل مكان سابقه الذي ساد بداية العقد الأخير من القرن العشرين مع انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز النظام القائم على القطب الواحد، أي الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول حلف الناتو وملحقاتها.

القوة الاقتصادية والصناعية والعسكرية في مجموعها هي المقياس الذي على أساسه سيحدد شكل المستقبل، ووضع الولايات الأمريكية كالقوة الأولى في نظام عالم ما بعد سقوط الإتحاد السوفيتي يجعلها مركز التركيز. 

يعتبر الإفلاس الاقتصادي أو الضعف المالي أحد أقصر الطرق لضعف الإمبراطورية. أدى خوض حروب طويلة ومكلفة إلى إرهاق الخزانة الأمريكية، مما سرع من وهن هيمنتها. كما يشير الانسحاب المتوالي للجيوش الأمريكية من مناطق الصراع (مثل أفغانستان في 2021) إلى انحسار النفوذ. وقد فشلت واشنطن في التغطية على تراجع فعالية تدخلاتها العسكرية المباشرة بتطبيق نظرية الفوضى الخلاقة والانقلابات الملونة وخوض صراعات عسكرية عن طريق الجماعات المتطرفة أو الوكلاء.

يرى بعض المؤرخين تشابهاً بين الوضع الحالي والضعف البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يظهر "تمرد" للنخب والمثقفين ضد القيم التقليدية، وترسخ صورة ذهنية لدولة "منحلة". 

ينظر إلى الصين كقوة منافسة تحل محل النفوذ الأمريكي، خاصة في مناطق آسيا والمحيط الهادئ وأفريقيا، وروسيا في وسط أوروبا والشرق الأوسط. 

وكما قال الناقد الماركسي رايموند وليامز يوما، لا يمكن للهيمنة، أي هيمنة، أن تكون شاملة أو دائمة... 

 

ثلاث تريليونات

 

قبل نهاية شهر يناير 2026 يتوجب على الخزينة الأمريكية أن تسدد مبلغا يفوق.3000.2 مليار دولار تكاليف خدمة دين لحاملي سندات الخزينة الأمريكية المستحقة للسداد في هذا التاريخ، وهذه السندات هي جزء من مجموع الدين الخارجي الأمريكي الذي ارتفع مع نهاية سنة 2025 إلى ما يفوق 38 تريليون دولار أي 3800 مليار دولار وهو ما يشكل قرابة 137 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.. السؤال الذي يطرح، هو من أين ستأتي واشنطن بهذا المستحق وما هي الإجراءات التي ربما تلجأ إليها لمنع إعلان العجز أو التوقف عن الدفع. 

اعتبارا من أبريل 2024، تمتلك الدول الأجنبية ما يقرب من 7.9 تريليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية ــ أو 22.9 في المئة من إجمالي الدين الأمريكي.

بحلول منتصف 2024 قفزت عوائد السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى ما يزيد على 5.2 في المئة، وهي أعلى مستوياتها منذ عام 2007.

والسبب هو مزيج سام من العجز المالي السنوي الذي تجاوز 1.8 تريليون دولار، وتكاليف خدمة دين فاقت 514 مليار دولار سنويا، وتراجع ثقة المستثمرين في قدرة الولايات المتحدة على سداد ديونها على المدى الطويل. 

الأسواق العالمية تكبدت خسائر بمليارات الدولارات نتيجة تراجع أسعار السندات الأمريكية طويلة الأجل.

بدأت البنوك المركزية الأجنبية - وعلى رأسها الصين واليابان- في تقليص حيازاتها من سندات الخزانة الأمريكية مدفوعة بالهواجس الجيوسياسية والمالية.

في عام 2024 خفضت الصين حيازتها من سندات الخزانة إلى أقل من 700 مليار دولار بعد أن كانت تتجاوز 1.1 تريليون قبل 10 سنوات، وتبعتها اليابان ودول الخليج العربي، في توجه يعكس تحولا إستراتيجيا نحو الذهب واليوان والأصول الرقمية. 

خلال الثلث الأول من سنة 2025 فقدت الولايات المتحدة رسميا آخر تصنيف ائتماني مثالي، كانت تحتفظ به منذ أكثر من قرن، بعد أن خفضت وكالة "موديز" تصنيفها السيادي من الدرجة العليا "إيه-إيه-إيه" إلى "إيه-إيه-واحد"، مشيرة إلى ما وصفته بـ"تدهور مستمر وغير قابل للعكس حاليا" في مؤشرات الدين والعجز، وسط شلل سياسي مزمن وتضخم في الالتزامات المالية غير القابلة للتقليص. 

وقد حذر صندوق النقد الدولي نهاية 2024 بقوله "أي ضعف في الطلب على سندات الخزانة الأمريكية قد يؤدي إلى اضطرابات ممنهجة في الاحتياطيات العالمية".

ومع ارتفاع العوائد تراجعت أسعار السندات، مما تسبب بخسائر فادحة للمستثمرين من المؤسسات الكبرى، وما بدأ كتصحيح في أسعار الفائدة تحول إلى أزمة ثقة.

تلعب سندات الخزانة الأمريكية دورا جوهريا في هيكلة الاقتصاد العالمي، فهي أكثر من مجرد أدوات دين، ولفهم حجم تأثيرها علينا النظر في أوجه استخدامها المتعددة، والتي تمس كل زاوية من زوايا الأسواق المالية الدولية:

• دعامة لاحتياطيات النقد الأجنبي: أكثر من 59 في المئة من احتياطيات العملات الأجنبية عالميا مقومة بالدولار، معظمها في سندات الخزانة.

• ملاذ آمن للأزمات: في أوقات الاضطراب يتجه المستثمرون إليها كخيار دفاعي طبيعي.

• مقياس تسعير عالمي: تحدد أسعار الفائدة على هذه السندات منحنى العائد الذي يستخدم لتسعير قروض الشركات والرهون العقارية والديون السيادية حول العالم.

• ضمانة أساسية في أسواق الريبو:  تُستخدم كضمان رئيسي لتوفير السيولة بين البنوك والمؤسسات المالية الكبرى.

• مرتكز للسياسة النقدية: تتبع البنوك المركزية العالمية تحركات الاحتياطي الفدرالي الأمريكي باستخدام عوائد السندات كمرشد.

إن أي تشكيك في موثوقية سندات الخزانة لا يهدد الولايات المتحدة فقط، بل يضرب الأسس التي يرتكز عليها النظام المالي العالمي بأكمله. 

وقد حذر الخبير الاقتصادي الأمريكي نوريل روبيني في حديث صحفي قائلا "السوق ترسل إشارة واضحة بأنها لم تعد تثق بقدرة النظام السياسي الأمريكي على إدارة مستقبله المالي".

يذكر أنه في ستينيات القرن العشرين أصدر الاقتصادي روبرت تريفين تحذيرا قال فيه "الدولة التي تصدر العملة العالمية ستكون مضطرة إلى إغراق العالم بالسيولة، وهذا يؤدي حتما إلى تآكل الثقة بتلك العملة"، وبحلول عام 2025 يبدو أن نبوءة تريفين تحققت.

وفي ظل هذه الفوضى تزايدت الأصوات عالميا للمطالبة بإعادة النظر في النظام المالي الدولي، حيث طالبت دول "بريكس" بإنشاء منظومات بديلة لتسوية المدفوعات بعيدا عن الدولار، في حين دعت أوروبا إلى اعتماد نظام احتياطي متعدد الأقطاب يشمل اليورو واليوان والعملات الرقمية.

ويرى مراقبون أن الاضطرابات في مزادات السندات، وهروب رؤوس الأموال، والتساؤلات عن جدوى استمرار الدولار عملة احتياطية لم تعد مجرد مخاوف عابرة، بل مؤشرات على نهاية مرحلة وبداية أخرى.

وفي ظل هذا التحول يبقى التساؤل مطروحا: كيف ستنجح الولايات المتحدة والتكتل الغربي في جهودها لترميم منظومة مأزومة؟ أم أننا أمام بداية تفكيك تدريجي لما تبقى من "عالم الدولار"؟

وكما قال الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون ماينارد كينز "الوقت الذي ننتظر فيه التوازن الطويل الأمد قد نكون فيه قد متنا جميعا".

 

واشنطن تطبع الدولار

 

لماذا تطبع الولايات المتحدة الدولار كما تشاء وكيف تؤثر هذه العملية على أموالك؟

تساؤل عريض يطرح نفسه باستمرار، لماذا تستطيع الولايات المتحدة طباعة الدولار باستمرار، فيما لا تستطيع أغلب دول العالم فعل ذلك لأنه سيعني أن عملتها لن تساوي شيئا؟. 

الجواب على مثل هذا السؤال ليس سهلا، وهو حصيلة عملية تاريخية طويلة وعوامل ذاتية نلخصها في التقرير التالي:

قيمة النقود معرضة، مثل أي مورد آخر، للتضخم بفعل الاستهلاك.وإذا لم يرتفع الطلب، ويصبح هذا المورد مرغوبا أكثر فأكثر، فإن قيمته تنخفض.

أوضح مثال على ذلك، أن الناس تشتري القمح في أوقات الأزمات كي تضمن أنها لن تتعرض لخطر المجاعة. وحين يتضاعف الطلب على هذه السلعة الحيوية التموينية، وتتعرض عمليات التموين لمصاعب، يحدث نقص في القمح، ويختفي من الأسواق، وترتفع قيمة ما تبقى منه. ويكون الارتفاع في سعر هذه السلعة الضرورية متناسبا مع حجم الكارثة أو الأزمة. 

بالمقابل، في أوقات السلم تتوفر البضائع بكثرة على أرفف المتاجر. تسير عملية سلسلة الإمداد من المنتج إلى المستهلك بطريقة طبيعية، وذلك لأن الناس واثقة من قدرتها على شراء أي سلع تموينية دائما بفضل الاستقرار. ويكون الطلب على القمح في صورة دقيق لصنع الخبز على سبيل المثال منخفضا، وبالتالي سعره أيضا. 

نفس الشيء يحدث في الاقتصاد، في أوقات الأزمة يسعى الأفراد والدول إلى الحصول على الأصول الضرورية، والتي يمكن التعامل بها بثقة مع وجود ضمانات بأن قيمتها لن تنخفض. يتمثل ذلك في عملات الدول المتقدمة، وهي الآن، الدولار، ثم اليورو، والين، واليوان، والجنيه الإسترليني.

تتمكن الدول صاحبة الاقتصاديات القوية من الصمود أمام الأزمات، في حين تتعرض العملات الوطنية للدول الأخرى إلى الانخفاض بشدة، ويسارع الناس والمستثمرون في الدولة التي تمر بأزمة إلى استبدال العملة الوطنية بعملة أكثر استقرارا.  

أثناء الأزمات يزداد الطلب على الدولار، وإذا قامت الولايات المتحدة برفع وتيرة طباعته، فلن تنخفض قيمته بشكل كبير على الرغم من زيادة الطلب.

الدولار حاليا يجري التعامل به فيما نسبته 59 في المئة من المدفوعات الدولية، كما يستخدم في التداول في العديد من البلدان، وخاصة أثناء فترات عدم الاستقرار والأزمات والحروب.

حين يأمر الرئيس الأمريكي بطباعة الدولارات، يجري إرسالها لتمويل الاقتصاد الأمريكي، ويتم استخدام هذه العملة في جميع أنحاء العالم. ذلك يعني أن التضخم، يتم توزيعه بدرجة متساوية على جميع حاملي الدولار، وحتى إذا تمت طباعة تريليونات من الدولارات خلال الأزمة، فلن يكون له أي تأثير تقريبا على سعر الصرف.

من هذا المنطلق، من مصلحة الولايات المتحدة إثارة حالات عدم الاستقرار خارج حدودها، كي يقوم أصحاب الثروات الكبيرة من البلدان النامية بتهريب الأموال ونقلها إلى بلدان "مستقرة ومتقدمة"، وفي الأساس إلى الولايات المتحدة وأوروبا. 

 

تضاعف الدين القومي للولايات المتحدة ما يقارب خمس مرات في السنوات الماضية، وارتفع من 8 إلى 38 تريليون دولار، ولذلك يعيش الاقتصاد الأمريكي وينمو على الأموال المقترضة، بما في ذلك الأموال الأجنبية. كما أن ربع هذا الدين فقط هو سندات حكومية تشتريها دول أخرى، وما تبقى ديون داخلية، وقسم كبير منها افتراضي. 

للتوضيح، حين تحتاج وزارة الخزانة الأمريكية إلى أموال إضافية لتغطية عجز الميزانية الضخم، فإنها تصدر سندات حكومية. لكن الطلب على هذه السندات محدود حتى على نطاق عالمي. لذلك، يتم استرداد بعض الأوراق المالية من قبل نظام الاحتياطي الفيدرالي، الذي يقوم بدور المصرف المركزي، وينهمك بنك الاحتياطي الفيدرالي في طباعة الدولار. وهكذا تقوم إحدى الإدارات الرسمية الأمريكية بإقراض الأخرى. 

نظام الاحتياطي الفيدرالي لم يكتف خلال الأزمات الاقتصادية الداخلية بشراء السندات الحكومية بل وسندات الشركات من البنوك المتضعضعة. ومرت العملية من دون أن يحدث أي تضخم كبير.

وذهب "البنك المركزي الأمريكي" لاحقا أبعد من ذلك. حيث قام نظام الاحتياطي الفيدرالي بشراء الأوراق المالية للشركات الكبيرة.أي أن الدولة أصبحت دائنة وفي نفس الوقت صاحبة أعمال تجارية.

خبراء ماليون يقولون إن مثل هذه الإجراءات تساعد في إنقاذ الموقف الآن، لكن من الصعب جدا التنبؤ بما قد ينجم عن ذلك في المستقبل. أي أن هذه الجرعة التي يمكن تشبيهها بالمضادات الحيوية يمكن أن تشفي، وهي قد تقتل. وهذا المصير سيطال الاقتصاد العالمي بأسره.

حديث الأرقام عن الدولار:

للإلمام بشكل محسوس بالحجم الهائل للعملة الأمريكية المتداولة في العالم نستعرض هذا المثال:

ثروة أغنى 500 شخص في العالم تقدر بأربعة تريليونات دولار، وزنها يبلغ 40 ألف طن، وحجمها يعادل نحو أربعة أمثال برج إيفل.

لو صففنا رزم قيمتها 10 آلاف دولار من فئة المئة دولار في خط مستقيم فسيكون طوله 62400 كيلو متر. هذه المسافة تزيد مرة ونصف عن محيط الكرة الأرضية عند خط الاستواء!

وأخيرا، إذا كان لديك أربعة تريليونات دولار، فسيكون بمقدورك إنفاق مليون دولار يوميا لمدة 11000عام.

 

خسارة التفوق الصناعي

 

جاء في تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال خلال النصف الأول من سنة 2025 إن قدرات الولايات المتحدة في مجال الصناعة العسكرية تراجعت بشكل ملحوظ مقارنة بالصين، التي تشهد نموا هائلا ومستمرا.

ولفت التقرير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على مضاهاة قدرتها الإنتاجية التي كانت تتمتع بها أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كانت تستطيع بناء سفينة إمداد في أقل من 5 أيام، ما مكنها من تحقيق النصر في الحرب.

وتتصدر الصين اليوم مجالات التصنيع بمعدلات إنتاج لا مثيل لها على مستوى العالم، حسب التقرير، وهو ما يجعلها أكثر استعدادا لأي صراع عسكري مستقبلي مع الولايات المتحدة.

ووفق التقرير، تمتلك الصين شبكة لوجستية ضخمة تعتمد على أسطول بحري يتفوق على الأسطول الأمريكي، فضلا عن قوة عاملة صناعية هائلة تعطيها الأفضلية في أوقات الحرب.

ومنذ عام 2000، بنت الصين أكثر من ضعف عدد السفن التي بنتها الولايات المتحدة، وفق شركة "جينز" للاستخبارات الدفاعية.

وعلى النقيض، يعاني الأسطول الأمريكي التجاري من نقص في عدد السفن والبحّارة، مما يعيق قدرته على تشغيل السفن التجارية بكفاءة في أوقات الأزمات، حسب التقرير.

وأكد التقرير أنه حتى إن استطاعت الولايات المتحدة توسيع أسطولها التجاري، فإنها تفتقر إلى البحارة لتشغيله، إذ تقدر بعض الإحصاءات عدد البحارة التجاريين الأمريكيين بأقل من 10 آلاف، بينما تملك الصين نحو 200 ضعف هذا العدد.

ووجد التقرير أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة في بناء وتحديث مصانعها بسرعة بفضل اعتمادها الواسع على الأتمتة والروبوتات الصناعية، وهو ما سرّع إنتاج المعدات العسكرية والحديثة.

وأشار إلى أن المصنعين الصينيين يمكنهم إعادة توجيه خطوط الإنتاج بسهولة لصناعة الأسلحة والعتاد الحربي في أوقات الحرب، ويشمل ذلك تحويل قدرة قطاع إنتاج السفن البحرية من سفن الشحن إلى السفن الحربية. 

ولفت التقرير إلى أن الصين تمتلك معظم الموارد الخام اللازمة للحرب الحديثة، وتسيطر على الكثير من مناجم ومعامل معالجة العناصر الأرضية النادرة، التي تعتبر ضرورية لصناعة الصواريخ والطائرات والغواصات، مما يتيح لها تعويض خسائر المعدات بسهولة عند نشوب حرب طويلة الأمد مع الولايات المتحدة.

وأكد التقرير أنه إذا واجهت الولايات المتحدة حربا كبيرة، فستضطر إلى إعادة هيكلة صناعاتها وقوتها العاملة كما فعلت خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين. 

وفي المقابل، وفق كاتبَي التقرير كبير المراسلين في سنغافورة جون إيمونت ورئيس مكتب الصحيفة في بروكسل دانيال مايكلز، تمتلك الصين جيشا من العمال والمصانع الجاهزة لتكوين اقتصاد حربي شامل عند الحاجة.

 

أربعة أعداء متحالفين 

 

"تواجه الولايات المتحدة الآن تهديدات خطيرة لأمنها أكثر مما واجهته منذ عقود، وربما في أي وقت مضى". هذا ما قاله وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس (2006 حتى 2011) في مقالة مطولة كتبها بمجلة foreign affairs الأمريكية، إذ يقول إنه لم يحدث من قبل قط أن واجهت أمريكا أربعة أعداء متحالفين في نفس الوقت: روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران٬ الذين قد تصل ترسانتهم النووية الجماعية في غضون بضع سنوات إلى أضعاف حجم ترسانتها النووية.

في ظل تصاعد النفوذ الصيني وتراجع النفوذ الأمريكي عالميا،وشن بوتين حربا مدمرة في أوكرانيا أصبحت تراوح مكانها رغم الدعم الأمريكي والغربي طوال السنوات الماضية٬ لا تريد واشنطن الغرق في أزمات أخرى حول العالم تبعد تركيزها عن أزماتها القومية الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا.

وعلى سبيل المثال٬ تدرك واشنطن أن ما حصل في السابع من أكتوبر 2023 لدى حليفتها في المنطقة إسرائيل التي تعرضت لضربة قاسية من قِبل المقاومة الفلسطينية٬ يمثل لحظة مفصلية لسياستها في الشرق الأوسط وعلاقتها بحلفائها في المنطقة، فبالرغم من التحديات الاستراتيجية التي تواجهها أمريكا في أكثر من منطقة حول العالم ومواجهتها لكل من الصين وروسيا، ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط سيتطلب من واشنطن الاهتمام والتركيز المستمرين وستتجه واشنطن إلى تعزيز تحركاتها في المنطقة في اتجاهين.

في الوقت نفسه٬ تريد واشنطن احتواء الصراع في الشرق الأوسط ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة، وذلك لتقليل خطر تورط القوات الأمريكية بشكل مباشر في القتال وما يمكن أن ينتج عنه من مخاطر تهدد مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

وتدرك واشنطن أن التهديدات التي تواجهها إسرائيل في وقت واحد على جبهات متعددة -غزة والضفة الغربية وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وإيران- تقتضي الحفاظ على موقف رادع موثوق به على طول كل من هذه المحاور. وبمعنى أكثر دقة فإن أمريكا أرادت أن تعزز الردع الإسرائيلي بحيث يمثل سلسلة قوية ومتماسكة ينظر إليها بنفس القدر وفي نفس الوقت في طهران وبيروت وغزة، إذ إن أي ضعف أو تمزق في حلقة واحدة من هذه السلسلة يمكن أن تكون له تداعيات واسعة النطاق.

وتخشى واشنطن من تسريع انحدارها عالميا وفقدانها لنفوذها القوي الذي استمر لعقود طويلة على العالم٬ وخصيصا في الجنوب٬ في الوقت الذي تتقدم فيه الصين وروسيا وتكسب أصدقاء جددا وتسحب البساط من تحت أقدام واشنطن٬ التي يرى البعض أنها فقدت الكثير من مصداقيتها حتى لدى أقرب حلفائها.

 

فراغ لم يدم طويلا

 

كتب المؤرخ والباحث الفرنسي إيمانويل تود:

انهار الاتحاد السوفياتي فتحرك التاريخ من جديد. أُغرقَت روسيا في أزمة عنيفة، فخلقت فراغا عالميا ملأته أمريكا، على الرغم من أنها كانت نفسها في أزمة منذ عام 1980. ثم انطلقت حركة متناقضة أساسها مفارقة صارخة: توسع غربي عبر الغزو النيوكولونيالي رغم أنه غارق في أزمة بنيوية تأكل قلبه.

في هذا السياق المتأزم، وتحديدا بين عامي 2016 و2022، اندمجت العدمية الغربية مع العدمية في أوكرانيا، لِينقاد حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا معا إلى تحرش عسكري بروسيا مستقرة، أصبحت مرة أخرى قوة عظمى مطمئنة، مع بقية العالم الذي لا يريد أن يتبع الغرب في مغامراته. قرر القادة الروس الدخول في معركة على حافة الهاوية: تحدوا حلف شمال الأطلسي وغزوا أوكرانيا.

يرى إيمانويل تود أن أساس التحول في الجيواستراتيجية الراهنة ليس نابعا من الصين، وإنما من روسيا، التي دفعت الغرب نحو الانهيار الشامل، باقتصادِها المتعافي تجاريا ومصرفيا، وضبطها لأمن كامل ترابها الوطني، ما سمح لها بتخطي العقوبات الغربية بشكل سلس. يخلص تود إلى تفنيد الطروحات الدعائية الغربية القائمة على أسطوانة مكرورة مفادها أن بوتين نسخة من ستالين.

 

صيحة فزع

 

جاء في تحليل نشره موقع "دويتش فيله" الألماني: 

تتجدد السجالات في أوروبا والولايات المتحدة حول سيناريوهات نهاية نفوذ الغرب التي تغذيها منذ سنوات إصدارات ومقالات لمفكرين وخبراء الاستراتيجيات، والتي تحمل عناوين مثل كتاب "موت الغرب" الذي صدر منذ سنوات للأمريكي باتريك جيه بوكانان الخبير ومستشار رؤساء أمريكيين، في ذروة الجدل حول الهجرة وأزمة النمو الديمغرافي بأوروبا. وهناك مقالة "وداعا للغرب" لوزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر التي قدم من خلالها رؤية متشائمة لمستقبل الغرب إثر صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأعقبتها مقولة "الموت السريري لحلف الناتو" التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. 

وفي ضوء تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تظهر مقالات وإصدارات جديدة حول "نهاية الغرب"، ضمنها مقالة للباحث الألماني المتخصص في التاريخ المعاصر، بجامعة كونستاتس الألمانية، ألبريشت كوشوركه، بعنوان "أيام الغرب باتت معدودة".وينضم إلى هذه التنبؤات التاريخية والرؤى الاستراتيجية مفكرون وخبراء من عالم "الجنوب"، مثل الكاتب والخبير جورجيو رومانو شيوته، أحد أبرز منظري السياسة الخارجية في البرازيل.

"الغرب لا يفهم الجنوب"

في مقال للباحث في العلاقات الدولية والاقتصاد بجامعة اي بي سي الفيدرالية البرازيلية، جورجيو رومانو شيوته، بعنوان "نهاية الغرب"، يرى أن حرب أوكرانيا كشفت عن عدد من الحقائق المرة، فقد أثبتت أن قادة أوروبا وقادة الرأي فيها "ليس لديهم مطلقا أي فكرة عن وجهات نظر وانتظارات العالم غير الغربي المعروف الآن باسم ‚الجنوب العالمي‘..". ويرى بأن عدم اتباع دول مثل البرازيل وجنوب إفريقيا والهند "بشكل أعمى لروايات وسياسات دول الناتو وحلفائها لا ينبغي أن يفاجئ أحداً"، ويستدرك قائلا "هذا لا يعني أنهم يوافقون على الغزو الروسي لأوكرانيا".

ويقترح باحثون مثالا آخر في هذا السياق، على ما يصفونه بالسياسة "غير الأخلاقية" التي تحكم مراكز نفوذ غربية. فبينما يجري اتهام الهند باستغلال أوضاع حرب أوكرانيا وزيادة وارداتها النفطية من روسيا بأسعار رخيصة، تجني شركات النفط الغربية أرباحا قياسية، فقد اتهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس شركات غربية كبيرة بتحقيق "أرباح غير أخلاقية على ظهور أفقر الفقراء". ناهيك عن المكاسب التي يجنيها الاقتصاد الأمريكي من فائض أرباح المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة.

ويتساءل محللون كيف ينبغي للدول الأفريقية أن تستجيب للجهود الدبلوماسية التي يبذلها القادة الأوروبيون الذين كانوا يضغطون من أجل المزيد من واردات الوقود الأحفوري من أفريقيا منذ الغزو، بعد سنوات من القول إنهم لن يمولوا استثمارات الوقود الأحفوري؟

وإذا كانت الحرب في أوكرانيا تمثل بالنسبة لألمانيا "نقطة تحول"، فهي ليست كذلك بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية، يلاحظ رومانو شيوته، مستنتجا بأن الغرب لا يمكن أن يقدم نفسه كقدوة أخلاقية للعالم، بينما هو مسؤول تاريخيا عن حروب استعمارية وعن غزو بلدان في العالم الإسلامي، إضافة إلى دعم حرب اليمن التي تسببت في أكبر أزمة إنسانية.

وثمة فكرة مركزية في الانتقادات التي يوجهها قادة في جنوب الكرة الأرضية للغرب، تتمثل في عدم تمييزه بين المنطق الذي يستند إليه في سياسته الخارجية والدفاعية بقيادة حلف الناتو وبين منظور الشرعية التي يقوم عليها النظام الدولي. وفي عام 2023 تصدر وزير الخارجية الهندي سوبرا امنيام جاي شانكار وسائل الإعلام العالمية بتصريحاته التي قال فيها: "على أوروبا التخلي عن  فكرة أن مشكلاتها هي مشكلات العالم، لكن مشاكل العالم ليست مشكلات أوروبا".

وعبر الفجوة بين نظرتي الغرب ودول الجنوب، تجد السياسة الخارجية الروسية مسوغات لتمرير خطابها لدى دول الجنوب المتذمرة من السياسات الغربية وازدواجية معاييرها. وأبرز مثال على ذلك، نجاح الدبلوماسية الروسية في كسب موقف أوبك بلس (منظمة الدول المصدرة للنفط)، التي تضم دولا حليفة تقليديا للولايات المتحدة.  

ألبريشت كوشوركه، الباحث الألماني المتخصص في التاريخ المعاصر، جامعة كونستاتس الألمانية، يرى أن أيام الغرب باتت "معدودة"، في مقال له نشر بصحيفة "دي تسايت" الألمانية.

كما يواجه الغرب مساءلة أخلاقية حول عدم التوازن بين انحيازه لأوكرانيا ومدى مراعاته لأوضاع البؤس ومعاناة دول عديدة في مناطق جنوب الكرة الأرضية. وتعني مقولة "أيام الغرب معدودة" كقوة مهيمنة، أن العالم على أبواب نظام عالمي متعدد الأقطاب.

 

اهتزاز أعمدة النظام 

 

هل بات النظام العالمي القائم على النفوذ المركزي الغربي بوجهيه المالي والاقتصادي والجيوسياسي، سواء نظام" بريتون وودز" الذي يرتز على المؤسسات المالية والنقدية التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية، أو نظام "الردع  والتفوق الأمريكي" الحاسم بعد الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفيتي، يقف على حافة نهايته؟

على الصعيد الجيوسياسي، تظهر تطورات حرب أوكرانيا مؤشرات مزدوجة على مكامن الخلل في أمن أوروبا وقوة الردع الأمريكية، الذي يرى خبراء الاستراتيجيات بأن "الردع الأمريكي" لا يؤدي غرضه. وبعيدا عن سيناريوهات الحرب النووية "المستبعدة"، لا يبدو أن نموذج الردع الأمريكي يحقق أغراضه كثيرا في الآونة الأخيرة، حسبما يرى الباحثان الجنرال الأمريكي المتقاعد جون ار. آلين ومايكل ميكلاوسيك.

ويقول آلين وميكلاوسيك، وهما زميلان في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية إنه لا يبدو أن أعداء الولايات المتحدة - وأساسا روسيا والصين- يخافون من خطر الفشل في تحقيق أهدافهم أو الخوف من التعرض للانتقام. ويرى الخبيران الأمريكيان أن الردع يتطلب مصداقية، وهذا ما يفتقده الغرب بوجه عام والولايات المتحدة بوجه خاص، بسبب النهج الاستراتيجي الغامض والمتردد، في حرب أوكرانيا وفي مواجهة المبادرات الصينية في مضيق تايوان.

ومن جهته يتوقع الباحث الألماني ألبريشت كوشوركه أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى هزيمة ثلاثية: لأوكرانيا وروسيا والغرب الذي لن يخرج بالضرورة منتصرا من هذه الحرب. وانطلاقا من تداعيات العقوبات التي فرضها على روسيا، كان على الغرب أن يستنتج منذ عام 2023 كيف أن "قوته الإبداعية" تتلاشى على الصعيد الدولي.

وعلى الصعيد المالي والاقتصادي، تتعالى الأصوات في جنوب الكرة الأرضية لمراجعة قواعد وآليات عمل المنظومة المالية والنقدية العالمية التي يتحكم الغرب بها وتتهمه دول الجنوب بأنه يجني من وراء برامجها مكاسب وأرباح طائلة.

وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء قال ميهير شارما وهو زميل كبير لمؤسسة أوبزرفر ريسيرش فاوندشن  بنيودلهي ومؤلف كتاب "إعادة التشغيل: الفرصة الأخيرة"، إن عدد الدول النامية التي تواجه أزمة ديون سيادية كبيرة وصل إلى مستوى قياسي بسبب جائحة فيروس كورونا والتضخم الذي أشعله الغزو الروسي لأوكرانيا. لذلك يجب أن تكون مساعدة هذه الدول على رأس أولويات صندوق النقد والبنك الدوليين، وليس أوكرانيا التي يفترض أن تتولى الدول الغربية مساعدتها، وفق ما يقترح التحليل.

وفي حين يفرض الصندوق شروطا بالغة الصعوبة على دول مثل بنغلاديش وباكستان وسريلانكا مقابل منحها مليارات قليلة من الدولارات، أو حتى الاحجام عن منحها مثل حالتي تونس ولبنان، تراه يقدم المزيد من الأموال لأوكرانيا ثالث أكبر دولة مقترضة منه دون أن تلتزم بمثل تلك الشروط.

وفي أتون المفارقات المتزايدة بين منظور الغرب ودول جنوب الكرة الأرضية، ينمو الوعي لدى هذه الأخيرة بضرورة تعميق تعاونها بشكل أكثر وضوحا، عبر تحديد أولويات مثل مكافحة الفقر والجوع ومواجهة أزمات المناخ والأوبئة. وثمة مؤشرات متزايدة على حراك عالمي باتجاه الخروج عن الهيمنة الغربية، يمكن رصدها في اجتماعات مجموعة العشرين ومن خلال تزايد الاعتماد حتى من قبل الدول الحليفة تقليديا للولايات المتحدة وأوروبا، مثل السعودية - أكبر احتياطي للنفط في العالم- على الشراكة مع الصين.

وهذا ما يفسر أيضا سبب إبداء المزيد من البلدان اهتمامها بالمساهمة في منظمة بريكس وبنك التنمية الجديد، برأي الباحث البرازيلي شيوته مستنتجا أن "العالم القائم على نظرية المركزية الأوروبية يقترب من نهايته، وهنالك تشكيك في تفوق القوة الأمريكية.

 

الخلافات الأوروبية 

 

لا تتوقف الخلافات بين القادة الأوروبيين على الصعيد الظرفي المرتبط بمتطلبات الحرب في أوكرانيا، بل تشمل تصوراتهما للسياسة الدفاعية على المدى المتوسط، إذ تعتمد ألمانيا ودول أوروبية في شرق ووسط وشمال القارة الأوروبية في تحديث جيوشها على الصناعات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية. 

وتنظر فرنسا بقلق لهذه التطورات وترى فيها خطوات استراتيجية متعارضة مع برامج عسكرية أوروبية مشتركة، مثل مشروع مقاتلات "اليورو فايتر" المتعثر، وبرنامج القيادة الفرنسية الطموح لبناء جيش أوروبي. فهي تنظر بعين الريبة لخطوات شركائها الأوروبيين وخصوصا ألمانيا- شريكها في "المحرك الفرنسي الألماني لأوروبا "Le couple franco-allemand"، بتعميق تعاونها مع الولايات المتحدة، وتنظر باريس إلى ذلك على أنه بمثابة إعلان "موت سريري" هذه المرة لمشاريع القوة الأوروبية المستقلة عن الولايات المتحدة، والتي يفترض أن يكون زمام المبادرة والقيادة فيها لفرنسا باعتبارها تمثل حاليا القوة العسكرية والنووية الأولى في دول الإتحاد الأوروبي.

 

عمر نجيب

[email protected]