أخطار انقلاب سلاح العقوبات الغربية على روسيا على صانعيه ؟ واشنطن تتوعد غالبية دول العالم بفعالية سلاح سيف الدولار..

ثلاثاء, 2023-01-31 23:07

في الوقت الذي يستمر فيه الجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها حول مدى فعالية العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا، والدعم العسكري والمادي الغربي لحكومة أوكرانيا، وفرضيات تطور المواجهة العسكرية والاقتصادية سواء على ساحة وسط شرق أوروبا أو على الصعيد الدولي، شهرت واشنطن بشكل أقوى من أي وقت مضى سيف العقوبات على مجموعة من دول العالم التي رفضت بشكل أو بآخر المشاركة في الحصار الغربي المفروض على روسيا.

التهديد الصادر من البيت الأبيض صدر بشكل علني وأرسلت الإدارة الأمريكية مجموعة من مسؤوليها إلى عدد من البلدان لنقل التحذير بشكل رسمي، موازاة مع ذلك شرعت واشنطن وحلفاؤها في شن حرب نفسية ونشر أخبار كاذبة ومناورات للمضاربة في عملات وسلع دول بعينها لإيصال ما يسميه الأمريكيون رسائل تحذير، في نفس الوقت جددت الخزانة الأمريكية بالتعاون مع الخارجية والعدل وأجهزة المخابرات وضع لوائح للأطراف المستهدفة إذا لم تتجاوب مع المطالب الأمريكية.

بعض الخبراء خاصة في الولايات المتحدة ودول أوروبية والياباننبهوا البيت الأبيض أن سياسة التهديد الموسعة على عشرات الدول يمكن أن تأتي بنتائج عكسية وتهدد مصالح الغرب الاقتصادية ومركز الدولار الأمريكي كعملة احتياط للبعض وتعامل بنسبة مهيمنة في الاقتصاد الدولي، ولكن هذا التحذير لم يلق آذانا صاغية حتى الآن في دوائر أصحاب القرارات.

التحرك الأمريكي الجديد اعتبره العديد من الخبراء خاصة في بعض العواصم الأوروبية، رد فعل غير عقلاني على فشل العقوبات الغربية في ترك آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد الروسي أو إثارة غضب شعبي داخلي ضد الكرملين وذلك رغم مرور حوالي سنة على تطبيقه، وقد أشار هؤلاء الخبراء كذلك إلى أن روسيا دولة كبرى تملك موارد طبيعية وصناعية وتقنية هائلة، والحصار الاقتصادي عليها وإن كانت له بعض النتائج السلبية في بداياته فإنه سيكون مولدا لنمو داخلي اكبر وأداة تحفيز للتخلي عن سلع خارجية بإخرى تنتج داخليا بنفس الجودة أو بأفضل وبالتالي فتح الأبواب أمام إمكانيات تصدير للخارج ومنافسة السلع الغربية تماما كما فعلت الصين طوال عقود حتى أصبحت توصف بمصنع العالم.

 

تحذير لتركيا والإمارات

 

يوم السبت 28 يناير 2023 أفادت وكالة "رويترز" بأن نائب وزير الخزانة الأمريكي، بريان نيلسون، سيتوجه إلى تركيا والإمارات وسلطنة عمان ودول شرق أوسطية أخرى لتحذيرها من خسارة السوق الأمريكية، إن استمرت في التعاون مع روسيا.

وقالت الوكالة نقلا عن مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية: "سيتوجه مسؤول كبير عن العقوبات في وزارة الخزانة الأمريكية إلى تركيا والشرق الأوسط في الفترة من 29 يناير إلى 3 فبراير 2023 لتحذير الدول والشركات من أنها قد تفقد الوصول إلى السوق الأمريكية إذا تعاملت مع شركات وكيانات محظورة".

وبالإضافة إلى مسألة العقوبات الروسية، يخطط نيلسون حسب مصادر واشنطن لبحث تحركات إيران في المنطقة، و"التهديدات المالية غير المشروعة التي تقوض النمو الاقتصادي" والاستثمار الأجنبي.

من جانبها حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، خلال زيارتها جنوب إفريقيا من أن الولايات المتحدة سترد بسرعة وصرامة على الشركات والدول التي تنتهك العقوبات ضد روسيا.

وقالت يلين في مؤتمر صحفي في منشأة لإعادة التدريب الوظيفي في شرق بريتوريا: "بحثنا العقوبات في كل دولة قمت بزيارتها، ورسالتي الأساسية هي أننا نتخذ العقوبات التي فرضناها على روسيا، بجدية بالغة".

وأضافت في تصريحات نقلتها وكالة "بلومبيرغ" للأنباء، إن "منتهكي تلك العقوبات من جانب شركات محلية أو من حكومات، سنرد عليها بسرعة وبصرامة".

وتصر العديد من الدول الأفريقية على التمسك بما تصفه موقف محايد بشأن الأزمة الأوكرانية، وتقول إنها لن تلتزم سوى بالعقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة وليس العقوبات الأحادية الجانب المفروضة من جانب دول أخرى. هذه الدول شرعت في حماية مدخراتها الخارجية حتى لا تتعرض للمصادرة.

يوم الأحد 29 يناير 2023 أكدت عضو الكونغرس الأمريكي، مارغوري تايلور غرين، أن روسيا التي تخضع لعقوبات غربية شديدة، تظهر للعالم أنه لا الصداقة الأمريكية ولا الدولار، ضروريان للتجارة والازدهار.

وأضافت: "الحرب الأمريكية غير المباشرة مع روسيا في أوكرانيا هي الأكثر فائدة للصين"، ودعت سلطات الولايات المتحدة إلى وقف هذه الأعمال.

وأشارت إلى أنه في مواجهة العديد من العقوبات الغربية، تظهر روسيا قدرتها على تطوير اقتصادها بشكل فعال.

وحذرت من أن "الأزمة الأوكرانية يمكن أن تؤدي إلى فقدان الدولار مكانته كعملة عالمية. بسبب ثقتنا بأنفسنا والنضال من أجل إنقاذ الديمقراطية في أوكرانيا غير العضو في "الناتو"، فإن روسيا تحت ضغط العقوبات الشديدة تثبت للعالم كله أنها لا تحتاج إلى دولارات أمريكية أو الصداقة للتجارة والازدهار".

وتابعت: "يتم تشكيل تحالفات جديدة بين روسيا والصين وإيران والعديد من الدول الأخرى، و"أوبك". تريد الصين أن تصبح قوة عظمى عسكريا واقتصاديا، وقد يكون الأوان قد فات لإيقاف هذا المسار".

ولا يحظى رأي تايلور غرين بشعبية في واشنطن، حيث أنه ووفقا لما قالت "يواصل دعاة الحرب، الرهان على هزيمة روسيا بكل الوسائل وبأي ثمن".

وذكرت أن "الصين اليوم تعد القوة العسكرية الأسرع نموا في تاريخ العالم، ونحن نستنزف الموارد، ونتأرجح على شفا حرب عالمية ثالثة مع روسيا".

وأضافت: "أمريكا وروسيا وأوكرانيا محكوم عليها بالفشل إذا لم ننتبه جميعا بشكل سريع إلى الداخل ونعمل تصحيح على أخطائنا. إذا كانت الإجابة لا، سنخسر جميعا، وستفوز الصين".

وذكرت بأنها تصوت ضد "كل سنت" من المساعدات لأوكرانيا وتطالب بـ"مراجعة عامة" لـ113 مليار دولار رصدت لهذا الغرض.

 

العقوبات الاقتصادية يسهل تجنبها

 

جاء في تقرير أعد لحساب صندوق النقد الدولي نشرته مجلة التمويل والتنمية كتبه نيكولاس مولدر أستاذ مساعد في التاريخ الأوروبي الحديث بجامعة كورنل:

لم يخضع اقتصاد في حجم روسيا منذ الثلاثينات لطائفة واسعة من القيود التجارية كتلك التي تم فرضها بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا. ولكن على عكس إيطاليا واليابان في الثلاثينات، تعد روسيا في الوقت الحالي من كبار مصدري النفط والمعادن الإستراتيجية والحبوب وغيرهما من السلع الأولية الأساسية الأخرى، كما أصبح الاقتصاد العالمي أكثر تكاملا إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، أصبح للعقوبات حاليا تداعيات اقتصادية عالمية أكبر كثيرا مما عهدناه من قبل. وينبغي أن يكون حجم هذه العقوبات دافعا لإعادة النظر في مفهوم العقوبات كأداة قوية من أدوات السياسات لما ينشأ عنها من تداعيات اقتصادية عالمية ملموسة.

غير أن العقوبات ليست هي المصدر الوحيد للاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. فقد سجلت أسعار الطاقة ارتفاعا مستمرا منذ عام 2021 بسبب فرط الأعباء المفروضة على سلاسل الإمداد الذي أدى بدوره إلى إعاقة مسار التعافي من الجائحة. كذلك ارتفعت الأسعار العالمية للغذاء بنسبة 28 في المئة عام 2020 و23 في المئة عام 2021، كما سجلت زيادة حادة قدرها 17 في المئة عام 2022 خلال الفترة ما بين فبراير ومارس فقط. ونتجت عن الحرب أضرار مباشرة.

وأدت صدمتان أكثر حدة إلى تفاقم الآثار الناجمة عن انقطاع الإمدادات من أوكرانيا: العقوبات التي فرضتها على روسيا 38 حكومة في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، واستجابة الشركات والبنوك العالمية لتلك التدابير. وساهم هذا الكم الهائل من القيود القانونية والتجارية والمالية والتكنولوجية في فرض معوقات حادة أمام نفاذ روسيا إلى الاقتصاد العالمي، كما أحدث زيادة كبيرة في أعداد السلع الأولية التي تتوفر بالبلدين والتي لم يعد لوصولها إلى الأسواق العالمية سبيل. وقد اقترنت هذه العقوبات الكاسحة ضد روسيا بالأزمة في سلاسل الإمداد العالمية والاضطرابات التي تشهدها أوكرانيا بسبب الحرب، مما تسبب في صدمة اقتصادية قوية غير مسبوقة. وسيؤدي فرض عقوبات إضافية على صادرات النفط والغاز الروسية إلى تفاقم هذه التداعيات.

يعد تأثير العقوبات ضد روسيا من فئة مختلفة تماما بالمقارنة مع تجارب سابقة. فروسيا تأتي في المرتبة الحادية عشرة ضمن أكبر اقتصاديات العالم، كما أن دورها كأحد مصدري السلع الأولية الرئيسيين في مجموعة الأسواق الصاعدة يضفي أهمية هيكلية على مركزها. ووحدها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا في مجموعة الاقتصاديات المتقدمة هي التي تملك بصمة مماثلة في الاقتصاد العالمي والزراعة وأسواق المعادن. ومنذ نهاية الحرب الباردة أيضا، وبفضل جهود تعزيز التكامل خلال ما يزيد على عقدين، أصبحت روسيا من الاقتصاديات شديدة الانفتاح، حيث سجلت نسبة التجارة إلى إجمالي الناتج المحلي لديها 46 في المئة حسب البيانات الصادرة عن البنك الدولي. وضمن مجموعة الأسواق الصاعدة السبع الكبرى، تفوقت المكسيك وتركيا وحدهما على هذه النسبة في عام 2020 بنسب 78 في المئة و61 في المئة. 

 

التكلفة مقابل المخاطر

 

على عكس تجارب الماضي قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، نجد أن نسبة التجارة العالمية إلى إجمالي الناتج المحلي أعلى كثيرا في الوقت الحالي، مدعومة بنظام مالي عالمي قائم على الدولار يتسم بدرجة كبيرة من التكامل. وبدلا من انخفاض الأسعار، تشهد الأسواق العالمية في الوقت الحالي ضغوطا تضخمية هائلة. وتنشأ عن ارتفاع أسعار السلع الأولية أرباح استثنائية في البلدان المصدرة، بينما تشجع الاقتصاديات المستوردة للطاقة على التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. وفي الوقت نفسه، ازداد التكامل بين الأسواق المالية، مما يجعل التدفقات الرأسمالية من الاقتصاديات المتقدمة عاملا أساسيا للنمو والاستثمار في اقتصاديات الأسواق الصاعدة والاقتصاديات النامية. وبفضل هذا التعاضد، يتمتع الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي بمكاسب هائلة، حيث تتيح التجارة فرص عمل لنسبة أكبر من القوة العاملة، وأصبح بالإمكان الحصول على الواردات من عدد أكبر من المصادر. ولكنه يواجه مخاطر متزايدة نظرا لإمكانية اختناق النقاط المحورية في تدفقات السلع الأولية والمعاملات المالية والتكنولوجيا بسبب المشكلات التي تواجه سلاسل الإمداد، أو استهدافها من خلال العقوبات الحكومية.

نتيجة لهذه التغيرات، يمكن أن تتسبب العقوبات حاليا في خسائر تجارية أكبر من أي وقت مضى، وإن كان يمكن التخفيف من وطأتها من خلال تحويل مسار التجارة أو العزوف عنها. وفيالوقت نفسه، لا تشكل العقوبات في العصر الحديث تهديدا مباشرا بقدر ما كان عليه الحال في الثلاثينات، مما يحد من مخاطر التصعيد العسكري. غير أن زيادة التكامل بين الأسواق أفسحت المجال لانتشار الصدمات الناجمة عن العقوبات عبر مختلف أجزاء الاقتصاد العالمي. وهكذا فقد أدت العولمة خلال القرن الحادي والعشرين إلى زيادة التكلفة الاقتصادية لاستخدام العقوبات ضد الاقتصاديات الكبرى التي تتمتع بقدر كبير من التكامل فيما بينها، كما أتاحت لهذه البلدان فرصة أكبر للثأر من خلال الروابط الاقتصادية والتكنولوجية بدلا من التدخل العسكري. وإجمالا، تغيرت طبيعة العقوبات من حيث المخاطر والتكلفة الناجمة عنها، بينما ظلت قنوات انتشارها كما هي – ارتفاع أسعار السلع الأولية وتكلفة المعاملات وزيادة اختناقات الإمداد والخسائر التجارية، وأصبحت تؤثر على المزيد من المواطنين حول العالم. 

وسرعان ما تتضح فداحة التداعيات الناجمة عن العقوبات ضد بلدان الشريحة العليا من الاقتصاد العالمي. فبينما تختفي صادرات السلع الأولية الروسية من الأسواق العالمية بفعل العقوبات، ترتفع الأسعار مؤدية إلى ضغوط على فاتورة الاستيراد والموارد العامة المحدودة لدى اقتصاديات الأسواق الصاعدة والاقتصاديات النامية المستوردة للسلع الأولية على أساس صاف. ومن غير المستغرب أن هذه البلدان نفسها لم تشارك في تنفيذ العقوبات ضد روسيا نظرا لأنها الأكثر عرضة لأزمات ميزان المدفوعات إذا ما تم تشديد العقوبات على الصادرات الروسية لفترة مطولة.

 

كيف استهلكت أمريكا سلاحها الأهم؟

 

قبل بدء الجولة الثانية من الحرب في وسط شرق أوروبا بحوالي سنة وثلاثة أشهر وبتاريخ 24 نوفمبر 2020 نشرت مجلة "Foreign Affairs" "فورين افيرز" تحليلا حول سلاح العقوبات الغربي جاء فيه:

منذ نهاية الحرب الباردة، تزايد اعتماد الولايات المتحدة على الأدوات الاقتصادية لتمرير أهداف سياستها الخارجية. تنطوي بعض هذه الأدوات، مثل العقوبات، على تطبيق مباشر للضغوط الاقتصادية. تعمل الأدوات الأخرى، مثل الترويج للتجارة الحرة والأسواق المفتوحة، عبر تغيير دوافع الدول الأخرى. لكن جميع هذه الأدوات هي في كنهها اعتراف بأن هذه القوة الاقتصادية الفريدة تمنح الولايات المتحدة قدرة استثنائية على تحقيق مصالحها دون اللجوء إلى القوة. 

لكن يمكن للقوة الاقتصادية، مثل أي أداة أخرى، أن تكون لها نتائج مؤسفة إذا مورست برعونة، مما ينتج عواقب غير مرغوبة على المدى القصير والتعجيل بانهيار الريادة الاقتصادية الأمريكية على المدى الطويل. واليوم تزيد واشنطن من استخدام قوتها الاقتصادية بطرق عدوانية وذات نتائج عكسية، بما يقوض مركزها العالمي ومِن ثم قدرتها على العمل بفعالية في المستقبل. كانت أعراض المشكلة واضحة منذ سنوات، لكنها ازدادت سوءا بصورة ملحوظة في ظل إدارة ترمب، والتي سعت متهورة إلى فرض رسوم جمركية على كل من الحلفاء والمنافسين، وأعادت فرض عقوبات اقتصادية على إيران دون أدنى اكتراث بوجود دعم دولي، وكذلك تصرفت في كلتا الحالتين دون أن تولي أدنى اعتبار للعواقب السلبية على المصالح الأمريكية. 

تنطوي السياسة على التنازل والتبادل. لكن يبدو أن المسؤولين الأمريكيين قد ساورهم اعتقاد بأن الولايات المتحدة بلغت حدا من العظمة والقوة حتى لم تعد قوانين الجاذبية الاقتصادية والسياسية تنطبق عليها. ووفقا لهذا النمط من التفكير فإن أمريكا يمكنها أن تبدأ بشن حروب تجارية ولن يستطيع أحد الرد لأنّنا -بحسب كلمات بيتر نافارو، مدير المجلس القومي للتجارة في إدارة ترمب- "السوق الرابحة الأكبر في العالم". يمكن للولايات المتحدة أن تهدد بفرض عقوبات على أقرب شركائها وحلفائها، وبطريقة ما يظلون متعاونين، الآن وفي المستقبل. ويمكن أن تواصل اتخاذ خيارات اقتصادية سيئة، وبطريقة ما، يظل الدولار الأمريكي في الصدارة بلا منازع.

لكن في عالم يجنح أكثر فأكثر نحو تعدد الأقطاب، لم يعد النفوذ الاقتصادي الذي تمتعت به الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أمرا مسلما به. ويهدد النهج العدواني أو أحادي الجانب في إدارة الاقتصاد، الذي بدا جليا على مدى عدة إدارات أمريكية، بمحو هذا النفوذ تحديدا. ولو واصلت إدارة واشنطن السير في هذا الاتجاه، فإنها لا تخاطر بإثارة مقاومة عالمية تحبط الأهداف الفورية لسياساتها وحسب، بل وبتقليل النفوذ الأمريكي طويل الأجل على الساحة العالمية كذلك. ستكون تلك نتيجة مأساوية وساخرة في ذات الوقت: فصناع السياسات الأمريكيون، وقد أعماهم الاعتقاد بأن نفوذ بلادهم غير محدود، هم من يعجل بانهيار ذلك النفوذ. 

 

مستنقع بشكل مختلف

 

بعيدا بقليل عن الجدل الدائر حول أبعاد وتأثيرات المواجهةالاقتصادية الدائرة بسبب الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا على العالم ومختلف المتصارعين، يجرى في الغرب منذ الثلث ما قبل الخير من سنة 2022 نقاش مختلف حول طبيعة فخاخ الحرب في أوكرانيا. 

بعد أسابيع من انطلاق الجولة الثانية في 24 فبراير 2022 كثرت التحليلات الصادرة في الغرب والتي تركز على مقولة مفادها أن واشنطن نجحت في جر روسيا إلى فخ الحرب في أوكرانيا مثلما فعلت بالاتحاد السوفيتي بجره إلى حرب أفغانستان في ثمانيات القرن العشرين وما ترتب عن ذلك من تسريع تفكك الاتحاد السوفيتي.

جاء في تحليل نشره موقع إدارة الدولة المسؤولة "Responsible Statecraft" الأمريكي يوم 25 يناير 2023:

"قواتنا ليست منخرطة في الصراع ولن تنخرط فيه"، هكذا أكد الرئيس جو بايدن للأمريكيين والعالم في بداية حرب أوكرانيا، لكن بعد نحو عام، يبدو أن قدم واشنطن قد انزلقت تدريجيا، فهل تتورط في فيتنام أخرى؟

تقرير لمجلة "إدارة الدولة المسؤولة" عنوانه "هل اتسع نطاق المهمة؟ هكذا تصاعد الدور الأمريكي ببطء داخل أوكرانيا".يتناول كيف تواجه الولايات المتحدة صعوبة في الخروج من الصراعات بعد التورط فيها عسكريا، ناهيك عن تجنب التشابكات العميقة التي تتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها لنفسها في بداية التدخل.

فعلى الرغم من اقتراب الحرب من دخول عامها الثاني ومعاناة العالم أجمع، بما فيها الغرب، من تداعياتها الكارثية، لا توجد خطوات جدية من جانب إدارة جو بايدن للتفاوض مع روسيا بشأن حل دبلوماسي يوقف الهجوم الروسي على أوكرانيا، كما أن واشنطن تؤكد مرارا أنه لا نية مطلقا للدخول في حرب مباشرة مع موسكو، وأصبح الهدف هو إلحاق الهزيمة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نهاية المطاف.

إستراتيجية الولايات المتحدة في التعامل مع أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت الآن واضحة، وهي كان كثير من المحللين يرونها "مقامرة مرعبة لإدارة بايدن"، ويحذرون منها منذ اندلعت الحرب، بحسب تحليل سابق لمجلة Responsible Statecraft ذاتها.

ويقارن التقرير بين ما حدث في فيتنام وأفغانستان من قبل وما يحدث في أوكرانيا الآن، إذ تزحف الولايات المتحدة وحلف الناتو رويدا رويدا في اتجاه السيناريو الكارثي الذي قال الرئيس جو بايدن إن "علينا الكفاح من أجل تفاديه"، ألا وهو سيناريو الصراع المباشر بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث أكد في بداية الحرب على أن "قواتنا ليست منخرطة في الصراع ولن تنخرط فيه".

عدد من المسؤولين الإستخباراتيين الأمريكيين الحاليين والسابقين، قالوا لموقع The Intercept الأمريكي في أكتوبر 2022، إن "وجود أفراد العمليات الخاصة من وكالة الاستخبارات المركزية والجيش الأمريكي" داخل أوكرانيا أصبح أكبر بكثير الآن مقارنة ببداية الهجوم، حيث يعكفون على تنفيذ "عمليات أمريكية سرية أوسع نطاقا في الوقت الحالي" داخل البلاد. 

وتشمل تلك العمليات السرية ما نقله المحقق الصحفي وضابط القوات الخاصة الأمريكية السابق، جاك ميرفي، في الـ24 من ديسمبر 2022 دون أن يحظى باهتمامٍ إعلامي كبير.

حيث تحدث ميرفي عن تعاون وكالة الاستخبارات المركزية مع وكالة استخباراتية من إحدى دول حلف الناتو، وذلك لتنفيذ عمليات تخريبية داخل روسيا، مما يفسر الإنفجارات غير المفهومة التي ضربت بعض أجزاء البنية التحتية الروسية طوال الحرب. ولا شك أن مثل هذه الأنشطة تقربنا على نحو خطير من اندلاع مواجهة مباشرة بين الناتو وبين روسيا.

وفي الوقت ذاته، اجتازت الولايات المتحدة ودول الناتو الخطوط الحمراء التي فرضوها على أنفسهم تدريجيا، وذلك في ما يتعلق بنقل الأسلحة، إذ حذرت صحيفة New York Times الأمريكية من إمدادات الأسلحة العلنية في بداية الحرب، وقالت إن مجرد نقل الأسلحة الصغيرة والخفيفة "يمثل مخاطرة بالتشجيع على اندلاع حرب أوسع ومواجهة الانتقام المحتمل" من جانب موسكو.

بينما استبعد مسؤولو الولايات المتحدة تسليم أسلحة أكثر تقدما باعتبارها خطوة تصعيدية للغاية، لكن إدارة بايدن لم تستغرق أكثر من شهرين قبل البدء في إرسال تلك الأنواع الأخطر من الأسلحة عالية القوة.

 

كيف تطورت إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا؟

 

بدأت الولايات المتحدة بحلول نهاية مايو 2022 في إرسال أنظمة الصواريخ أيضا، وهي الأنظمة التي كانت تعتبرها تصعيدية للغاية قبلها بأسبوعين. وأرسلت الولايات المتحدة أنظمة الصواريخ بشرط عدم استخدامها في ضرب الأراضي الروسية، نظرا لأنهم كانوا يخشون اندلاع تصعيد يجر أقدام الناتو إلى الصراع. 

لكنهم تجاوزوا ذلك الخط الأحمر أيضا بنهاية المطاف، حيث اعترف البنتاغون في أواخر ديسمبر 2022 بأنه أعطى أوكرانيا الضوء الأخضر لمهاجمة أهداف داخل روسيا، وذلك ردا على استهداف موسكو للبنية التحتية الأوكرانية.

بينما أوضح مسؤول دفاعي لصحيفة The Times البريطانية قائلا: "تغيرت درجة الخوف من التصعيد مقارنة ببداية الصراع"، حيث أصبح البنتاغون أقل قلقا بعد تراجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تهديداته النووية في أكتوبر 2022.

ومع تعطل جهود الحرب الأوكرانية وإحراز القوات الروسية لتقدمطفيف، تصاعدت وتيرة نقل أسلحة الناتو لتتجاوز المعدلات التي كانت تخشاها الحكومات قبل بضعة أشهر، وذلك بدعوى أنها كانت ستجر التحالف إلى حرب مباشرة مع روسيا.

وأصبحت الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية ترسل المركبات المدرعة إلى أوكرانيا اليوم، مع تقارير تفيد بتجهيزها لإرسال دبابات أيضا. فيما تنبأ وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف باحتمالية حصول بلاده على المزيد من الأسلحة.

حيث قال لمجلة The New Yorker الأمريكية آنذاك: "عندما كنت في واشنطن قبل بدء الهجوم خلال شهر نوفمبر 2022، طلبت الحصول على صواريخ ستينغر لكنهم أخبروني أن الأمر مستحيل. وأصبح الأمر ممكناً الآن. وعندما طلبت الحصول على مدافع من عيار 144 ملم، أخبروني أن الإجابة هي لا. وقالوا إنني لن أحصل على أنظمة صواريخ هيمارس أو هارم. لكن الإجابة أصبحت نعم الآن. لهذا أنا على ثقة في أننا سنحصل على صواريخ إم جي إم-140 أتاكمزز وطائرات إف-16 قريبا".

وسنرى كم سيمضي من الوقت قبل أن يختفي رفض الولايات المتحدة لهذا النوع من المساعدات العسكرية، كما كان الحال مع الأسلحة التي جرى إرسالها في السابق. وسنرى إلى متى ستحافظ الإدارة على رفضها إرسال الطائرات المسيرة بعيدة المدى، التي يضغط عدد من نواب مجلس الشيوخ في الحزبين حاليا من أجل إرسالها، والتي حذر المسؤولون الروس صراحة من أنها ستحول واشنطن إلى "طرف مباشر في الصراع".

 

أوكرانيا فيتنام أخرى

 

وبالتبعية اتسعت أهداف الحرب مع توسع نوعية الأسلحة المستخدمة فيها، إذ تركزت الأهداف الأولية للتحالف على مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن استقلالها وسيادتها، وذلك عن طريق دحر الهجوم الروسي العازم على تغيير النظام.

لكن بعد مضي شهرين، بدأ المسؤولون الأمريكيون في الحديث علنا عن "النصر" وعن إلحاق "هزيمة إستراتيجية" بروسيا وتركها في حالة "ضعف". وتعهد بايدن مرارا بدعم أوكرانيا "مهما تطلب الأمر من وقت"، رغم توضيح زيلينسكي وغيره من المسؤولين أن هدفهم الآن أصبح ينصب على استرداد القرم.

وغاب الحديث عن الدبلوماسية بالكامل تقريبا في أوساط المعلقين الأمريكيين، لتحتل الواجهة أصوات الدعوات المطالبة بتصعيد جذري لمشاركة الناتو، وذلك بهدف تحقيق النصر الأوكراني. وجاءت تلك الدعوات بحجة أن أي نتيجة أخرى ستمثل ضربةوجوديةً للغرب وللنظام العالمي الليبرالي ككل.

ويبدو أن إدارة بايدن أصبحت مستعدة لاجتياز أحد خطوطها الحمراء الرئيسية، إذ نقلت صحيفة New York Times أن المسؤولين الأمريكيين يدرسون بجديةٍ إعطاء أوكرانيا الضوء الأخضر لمهاجمة القرم، رغم إقرارهم بمخاطر الرد النووي التي ستنطوي عليها خطوة كهذه. لكنَ المسؤولين أفادوا للصحيفة الأمريكية بأن المخاوف من تصعيد كهذا "قد تراجعت".

ولا شك أن تصعيد دعم الولايات المتحدة وحلف الناتو لأوكرانيا عسكريا سيخلق الدافع الذي تريده موسكو لاتخاذ خطوة يائسة عدوانية، وذلك من أجل إظهار مدى جديتها حيال خطوطها الحمراء، بحسب المجلة الأمريكية.

ومن المؤكد أن تلك الخطوة ستكون خطيرة في أفضل الأحوال، وخاصةً لأن المسؤولين الروس أوضحوا أنهم ينظرون للحرب باعتبارها حربا ضد الناتو ككل، وليس ضد أوكرانيا بمفردها، كما هدد المسؤولون الروس بالرد النووي على تصعيد التحالف لعمليات نقل الأسلحة.

ولم تعد حكومات الناتو تروج للصراع أمام شعوبها باعتباره جهدامحدود النطاق لمساعدة دولة في ردع هجوم جارتها، بل يصورون الصراع بمثابة معركة وجودية من أجل بقاء الغرب. وتنعكس هذه الصورة في رؤية القيادة الروسية المتطورة للحرب، التي يرون فيها معركة من أجل البقاء ضد القوى الغربية العدوانية. ويذكر أن كل هذه الأحداث تتكشف الآن رغم تأييد إدارة بايدن العلني للدبلوماسية أواخر عام 2022.

وإذا كانت النية هي إبقاء الحرب داخل نطاق إقليمي محدود بين دولتين متجاورتين، مع لعب الناتو لدور داعم هامشي فقط، فلا شك أن جميع الاتجاهات المذكورة أعلاه تشير إلى المسار المعاكس تماما.

وبالتالي فإنه إذا لم يبذل المسؤولون جهودا مشتركة للتهدئة وسلك المسار الدبلوماسي، من المؤكد أن وعود بايدن بتفادي الحرب العالمية الثالثة ستكون أشبه بوعود الرئيس جونسون عام 1964، عندما وعد بعدم "إرسال أبناء أمريكا في رحلة تبعد تسعة أو عشرة آلاف ميل عن أرض الوطن، من أجل فعل الشيء الذي يتعين على أبناء آسيا فعله بأنفسهم"، قبل أن تتحول فيتنام إلى المستنقع الأمريكي الأول بعد الحرب العالمية الثانية، وإن لم يكن الأخير.

 

هل فشلت العقوبات؟

 

يوم 18 يناير 2023 ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" إن العقوبات على روسيا فشلت، معترفة بصحة البيانات التي قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول تطور أداء الاقتصاد الروسي.

وأقرت الصحيفة الأمريكية إلى حد ما بفشل العقوبات على روسيا، معترفة بصحة البيانات التي قدمها الرئيس الروسي بوتين حول أداء الاقتصاد الروسي. لكن الصحيفة تحاول تبرير هذا الفشل بالقول إن هدف العقوبات لم يكن الاقتصاد الروسي وإنما "إعاقة المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا". بالرغم من أنها تعترف مثلا بأن العجز التجاري الروسي لهذا العام هو أقل من نظيره في الولايات المتحدة.

ونقلا عن بيانات من وزارة التنمية الاقتصادية، قال بوتين إن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا قد انخفض بين يناير ونوفمبر 2022 - ولكن بنسبة 2.1 في المئة فقط. وأشار إلى أن "بعض خبرائنا، ناهيك عن الخبراء الأجانب، توقعوا انخفاضا بنسبة 10 و15 في المئة وحتى 20 في المئة".

وذكر الرئيس الروسي إن الحسابات الأولية تشير إلى أن الاقتصاد الروسي تقلص بنسبة 2.5 في المئة خلال عام 2022 بأكمله - وهو أفضل بكثير من الانكماش بنسبة 33 في المئة في الاقتصاد الأوكراني عام 2022. وأضاف بوتين: "مهمتنا هي دعم وتعزيز هذا الاتجاه الإيجابي".

بالنسبة للكثيرين خارج روسيا، هذه الأرقام محيرة. كان حجم قوة النيران الاقتصادية الموجهة إلى روسيا غير مسبوق بالنسبة لدولة كبيرة، لكن يبدو أن البيانات الروسية تشير إلى أن حجم التأثير كان أقل حدة مما توقّعه الكثيرون. 

وعلى الرغم من أن بوتين قد لا يكون في منتدى دافوس الاقتصادي، فإن روسيا ليست معزولة تماما عن العالم. إذ ارتفع ميزان الحساب الجاري للبلاد - وهو رقم قياسي فعلي لتجارتها مع بقية العالم - خلال عام 2022 بطريقة كان من شأنها أن تعني عاما مزدهرا في أي وقت عادي.

وربما تكون البيانات الروسية معيبة بالطبع. لكن العديد ممن يعيشون في روسيا أو يزورونها أشاروا إلى أن الحياة استمرت تقريبا كالمعتاد. حتى لو تم استبدال "ماكدونالدز" المغادر بسلسلة برغر محلية "لذيذ - وهذا كل شيء".

وتساءلت الصحيفة: "هل هذا يعني أن العقوبات لم تنجح؟ الإجابة المختصرة هي لا - لكنها أكثر تعقيدا من ذلك".

وحتى مع ارتفاع نفقاتها بسبب العملية العسكرية في أوكرانيا، "سجلت موسكو عجزا في الميزانية بنحو 47.3 مليار دولار في عام 2022، وفقا للإعلانات الرسمية - بنسبة 2.3 في المئة تقريبامن الناتج المحلي الإجمالي. نعم، هذا عجز أقل من الولايات المتحدة"، وفق الصحيفة.

في العام 1999، كتب نعوم شومسكي المفكر والكاتب والأكاديمي والسياسي الأمريكي، الذي يعد من أبرز مثقفي العالم الغربي، واشتهر بنقده الحاد لما يسميه "الليبرالية المتوحشة" وللسياسة الخارجية لحكومات أمريكا. كتب مقالا تحليليا بعنوان: "الولايات المتحدة، قلق البداية أم خوف النهاية؟"، اعتبر فيه أن الإمبراطوريات تعيش مرحلتين تكونان الأكثر عنفا في تاريخها، مرحلة قلق البداية التي تكون فيها محتاجة إلى الحروب والعنف لترتقي من صفة الدولة العظمى إلى الإمبراطورية العظمى. أما مرحلة خوف النهاية، فتحتاج إلى الحروب، من النوع ذاته أو من أنواعٍ جديدة لتلبي مخاوف النهاية وتحول دون خسارتها لمقامها كإمبراطورية مهيمنة على العالم. لكن هذه الحروب وما يرافقها أو يليها من أعمال عنف وتدابير مختلفة، تسرع النهاية نفسها. 

يظهر أن المعادلة الجديدة في ساحة صراع بزوغ ونهاية الإمبراطوريات قد اقتربت من نقطة بداية ونهاية.

 

عمر نجيب

[email protected]