نعم.. لقد كشفت غزة الجميع!

ثلاثاء, 2025-08-19 00:32

إن ما تَكَشَّفَ من حقائق منذ السابع من أكتوبر 2023 يجعلنا نقول أن غزة هي فتنة هذا العصر، فتنة كشفت ما كان مخبوءا بين ثنايا الشعارات والأنظمة والشعوب والضمائر، فتنة مَحَّضَت ومحَّصت معادن الناس، وكشفت عن عوراتٍ وبطولاتٍ، وأبانت عن أقزامٍ وأعلامٍ، وفضحت عمق التناقض بين الخطاب والأفعال ..

لقد كشفت غزة ما سمي (بالمجتمع الدولي) خصوصًا فيما يتعلق بمفاهيم: القانون الدولي، والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأماطت اللثام عن (ازدواجية معايير حقوق الإنسان) فبينما تتبنى هذه الأنظمة خطابًا قويًا حول حماية المدنيين وحق الشعوب في تقرير مصيرها في صراعات أخرى، تُظهر صمتًا أو دعمًا مباشرًا لأفعال الكيان الوحشي في غزة، هذا التناقض كشف أن هذه المبادئ غالبًا ما تُطبق بشكل انتقائي حسب المصالح السياسية للغرب.

لقد كشفت غزة (انتقائية معايير الحداثة والديمقراطية) فقد قدمت الديمقراطيات الغربية نفسها على أنها حاملة لقيم الحداثة والتنوير، التي من المفترض أن تقوم على العدالة والمساءلة، لكن ردود الأفعال الرسمية على الحرب كشفت تهاوي هذه السردية أمام المصالح الجيوسياسية. كما أن القوة والنفوذ في النظام الدولي غالبًا ما تتجاوز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول مصداقية هذه المفاهيم.

لقد كشفت غزة (انحياز الإعلام الغربي) بشكل واضح لصالح الرواية الصهيونية، وتجاهله لأصوات الفلسطينيين إلى حد كبير، وتبريره للعنف ضد المدنيين بحجج “الدفاع عن النفس” دون تدقيق كافٍ. بل وصلت التغطية الإعلامية الغربية إلى مستوى ممجوج ووقح وغير أخلاقي ولا إنساني، في التعامل المزدوج بين أسرى الكيان الوحشي والأسرى الفلسطينيين، بل حتى مع ضحايا القصف والتجويع.

كشفت الحرب عن (فجوة كبيرة بين مواقف الحكومات الغربية والرأي العام الشعبي)، فبينما كانت الحكومات تقدم دعمًا سياسيًا وعسكريًا للكيان، شهدت عواصم أوروبية وأمريكية مظاهرات حاشدة تندد بالحرب وتطالب بوقفها، هذا الحراك الشعبي الواسع النطاق أظهر وعيًا متزايدًا بالظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون، وأن الرأي العام الغربي ليس كله بالضرورة متوافقًا مع سياسات حكوماته.

من جهة أخرى، حرب غزة كانت بمثابة زلزال سياسي واجتماعي للعالم العربي، كشف زيف الإدعاءات التي تغنت بها الأنظمة العربية طيلة عقود؛ بأن “القضية الفلسطينية” سنظل “القضية المركزية للأمة”، فقد كشفت الحرب عن (فشل الأنظمة العربية في اتخاذ موقف موحد) إذ تباينت ردود أفعالها بين الإدانة القوية، والمساعدات الإنسانية الرمزية، وصولًا إلى الصمت، أو حتى التنسيق غير المعلن مع الكيان الوحشي. كما أظهرت الحرب أن “الإجماع العربي” حول القضية الفلسطينية هو “مفهوم هَشٌّ”، وأن “المصالح الوطنية الضيقة”، والتحالفات الإقليمية والدولية، غالبًا ما تتقدم على مبدأ التضامن والأخوة العربية والإسلامية.

كانت الحرب اختبارًا مصيريا للأنظمة المطبعة، فقد كشفت أن (حقيقة التطبيع) وأنه لم يحل الصراع كما ادعته هذه الأنظمة، بل على العكس، لقد أمدَّ الكيانَ الوحشي بمساحة كافية من الأمان كي ينفذ مجازره دون أن يخشى ضغطا عربيا، بعد أن تسلل إلى النظام العربي وقسم صفوفه، ورغم الرفض الشعبي الذي أبدته بعض شعوب هذه الدول، إلا أن الأنظمة لا تزال تتشبث به رغما عن أنف شعوبها، ودون أن تستحي من ضميرها أمام هذا المشهد الرهيب من خراب الإنسان والعمران في غزة.

كما كشفت الحرب عن (الفجوة الهائلة بين مواقف الشعوب العربية وحكوماتها)، فبينما كانت المواقف الرسمية غالبًا ما تتسم بالحذر والتردد والتواطؤ أحيانا، خرجت ملايين الشعوب العربية في بعض العواصم منددة بالعدوان، معبرة عن تضامنها المطلق مع غزة، في حين تم قمع بعض المظاهرات في دول أخرى، ومُنعت “قافلة الصمود” لتواصل مسيرها نحو معبر رفح، وحُظرت المسيرات في كثير من الدول العربية في الوقت الذي أُذن بها في كبرى العواصم الغربية. في مشهد سريالي يؤكد أنه رغم كافة أشكال الضغوط والمضايقات، لا تزال مظلومية الشعب الفلسطيني حاضرة في وعي وضمير الأمة العربية والإسلامية والإنسانية، وأنها قادرة على تحريك الشارع وتوحيد الرأي العام.

لكن في المقابل، كشفت الحرب عن (فئة في العالم العربي منفصلةٍ تماما عن انتماءاتها الإسلامية والعربية بل وعن إنسانيتها) حيث عرفت عدة عواصم ومدن عربية إقامة مهرجانات ضخمة واحتفالات صاخبة! في الوقت الذي يتعرض فيه أهل غزة لكل ألوان التعذيب والتجويع والتنكيل، وجدت ضمائر ومشاعر هذه الجماهير سَعَةً للهو والغفلة والرقص على أنَّات اليتامى والثكالى؟

كما لم تتعدَّ نسبة (المقاطعة الاقتصادية الرسمية والشعبية) مستوى التحدي الذي كان مرجوًّا، مقابل الدعم الكبير الذي يتلقاه الكيان الوحشي من ذات الشركات الاقتصادية والعلامات التجارية التي تحظى بانتشار واسع في العالم العربي، وبعضها يتم الترويج له عبر القنوات الرسمية العربية، والمؤسف أن شعوبنا لم تبلغ مستوى الوعي بأثر المقاطعة الاقتصادية سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا، كما أنها تتحول بشكل غير إرادي إلى داعم للإبادة.

كشفت الحرب عن (شغور الساحة العربية والإسلامية من القيادات الفكرية والدينية والحزبية) التي تتبنى هموم الأمة بشجاعة وبسالة، وتتصدر مشهد المناصرة، دون خوف أو حسابات ضيقة مرتبكة تأتي على حساب آلاف القتلى والموجعين والمنكوبين، وباستثناء القليل منهم، صُدِم العالم الإسلامي بظهور عصابة من أدعياء الدعوة والمُتألِّين على الله، الذين باتوا يطعنون المقاومة في ظهرها وبجراءة غير مسبوقة، ويتفكّهون في كيل السِّباب واللمز للمجاهدين والمرابطين بشكل مقرف ومهين لمقام الدعوة وشرف الرسالة.

لقد كشفت الحرب مرة أخرى عن (عمق الانقسام الفلسطيني)، فعلى الرغم من الحرب، لا تزال الخلافات السياسية قائمة، والاتهامات والتراشقات بين أبناء الوطن المسلوب تزداد ضراوة، في مشهد ينم عن غياب النضج السياسي، وعدم تبلور مشروع وطني مشترك للتحرير، يتعالى عن الأنانيات الحزبية والطموحات الضيقة، التي تأتي على حساب وطن مهشم، ومهدد بالمزيد من القضم. ولا شك أن هذا الانقسام يدل على الضعف القيادي وعمق الاختراق الصهيوني، وهو يمثل تحديًا كبيرًا أمام التيار الوطني لتوحيد الصف الفلسطيني، من خلال مراجعة الخطاب السياسي وترتيب البيت الداخلي، خاصة وأن كثيرا من الحكومات العربية تتخذ من الانقسام الفلسطيني ذريعة للتطبيع، أو التردد في مناصرة القضية بسبب غياب جسم فلسطيني موحد، يحمل هَمَّ التحرير بصدق، ويتماهى مع طموحات الأمة العربية والإسلامية.

لقد صُدم العالم العربي والإسلامي بالخط التحريري لبعض (القنوات العربية المتأمركة والمتصهينة)، التي انساقت وراء السردية الأمريكية والصهيونية، وراحت تشن حملات دعائية ضد المقاومة، وتعمل على تشويه رموزها، دون أدنى مصداقية أو التزام أخلاقي، فتصف ضحايا الفلسطينيين “بالقتلى” وتتهم قادة المقاومة بأنهم يعيشون مع أبنائهم في فنادق فارهة؟ حتى جاءت الأحداث المتتابعة وفنّدت فريتهم. فظهرت بشكل منحاز ومفضوح أكثر من الإعلام الغربي، مما ينم عن عمق الاختراق الصهيوأمريكي، وتمكنه من أدوات الحرب الناعمة، التي يستهدف بها وعي الأجيال الحاضرة والقادمة.

د. حرزالله محمد لخضر كاتب جزائري