أمريكا والناتو ومخاطر خسارة الحرب وسط شرق أوروبا... شبح الانكسار في غزوات أفغانستان والفيتنام يطارد النظام العالمي الأحادي

أربعاء, 2023-01-18 13:38

المتتبعون العاديون من غير المتعمقين بعملية البحث والتحليل في قضية الصراع العسكري الدائر في وسط شرق أوروبا بأوكرانيا بين روسيا وحلف الناتو، يجدون أنفسهم وسط متاهة تجعلهم غير قادرين على تكوين نظرة وتقدير موضوعيين بشأن مسار الأحداث وفرضيات تطوراتها المستقبلية.

السبب الرئيسي لتلك الوضعية هي أن أجهزة الأعلام الأكثر انتشارا وهيمنة على الساحة الدولية توجد في قبضة الشركات والأوساط الموصوفة بالمحافظة أو اليمينية في المعسكر الغربي وهي بالتالي تقدم صورة شبه موحدة للأحداث وموجهة لإقناع الرأي العام وخاصة في بلدانها بوجهة نظر الطرف المتحكم بهاوفي حالات نادرة تكسر هذا النمط. ووسائل الإعلام المتوسطة أو الصغيرة تعيش حالة تشبه الحصار فإن خرجت عن الخط الإعلامي السائد والمتحكم به تصبح مهددة على الأقل ماديا بفقدان المداخل المالية التي تحصل عليها عبر الإعلانات التجارية.

على الجانب الآخر هناك أعداد أقل ضمن الرأي العام الذين يبحثون عن الحقائق في الجانب الآخر، وجزء منهم حذرون بشأن المصداقية على أساس أن وجهة النظر المخالفة تقدمها أجهزة حكومية معادية للغرب.

يسجل أنه بعد بداية الجولة الثانية من الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 أقدمت الدول الغربية خاصة في الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو على حظر وسائل الإعلام الروسية على شبكات الاتصال الدولية الخاضعة لسيطرتها تحت غطاء عذر منعها من نشر الأخبار المضللة، أي أنها أي الحكومات الغربية قد غدت الحكم حول ما هو صالح أو غير صالح ولم يعد للمواطن فيها حق الاختيار والفرز.

في الصراعات التي خاضها الغرب على مدى العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية يسجل المؤرخون أن حجم المرونة في الإعلام الغربي كانت تعرف حركة تقلص متواصلة وبالتالي زاد طغيان التوجهات الرسمية لحكوماتها. حرب الفيتنام التي خاضتها الولايات المتحدة من سنة 1962 وحتى 1975 قدمت من طرف غالبية وسائل الإعلام الأمريكية خاصة في بداياتها كمواجهة بين الخير والشر، الأصوات المخالفة كانت قليلة ويتم إسكاتها، ولكن عندما زادت خسائر القوات الأمريكية وتصاعدت المعارضات الداخلية للحرب أخذت بعض وسائل الإعلام تتمرد على الإجماع السابق لأسباب مختلفة حتى جاءت الصدمة في 13 يونيو 1971، عندما استيقظ الأمريكيون من نومهم ليعيشوا مع كابوس الهزيمة في فيتنام. فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز في ذلك اليوم وثائق الحرب، أو ما عرف وقتها بأوراق البنتاغون. وهي تقرير حكومي أمريكي سري للغاية من 7 آلاف صفحة عما يجري بالفعل في حرب فيتنام. قبل نشر الأوراق كان الأمريكيون في معظمهم مخدوعين لا يعلمون خفايا الحرب وحقيقة ما يفعله جنودهم وما يحدث لهم على الأرض الفيتنامية.

أسلوب الخداع ونشر الأخبار المضللة مارسته أغلب وسائل الإعلام الغربية في سنوات لاحقة في حروب أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها. وحتى بعد الانكسار الأمريكي والانسحاب الفوضوي من أفغانستان في أغسطس 2021 حاولت أغلب وسائل الإعلام الغربية تبريره بفشل الجيش الأفغاني الذي شكلته واشنطن والمكون من زهاء 330 ألف جندي في مواجهة حركة طالبان كما فشل قبله جيش جنوب الفيتنام المكون من مليونين ونصف مليون جندي في منع المقاومين الفيتاميين من السيطرة على العاصمة سيغون خلال أيام.

لقد أظهر تعامل الإعلام الغربي والروسي على السواء طبيعة الدور الذي يمكن أن يقوم بها الإعلام في إدارة الصراعات السياسية بين الدول، وأكد بأنه يمكن أن يكون سلاحا مدمرا للصورة الذهنية إذا لم يكن للدولة رصيد من شبكة العلاقات العامة مع الدوائر الإعلامية في العالم. كما أكدت هذه الحرب من جديد حقيقة أن الإعلام بات سلاحا فعالا يمكن توظيفه لقلب موازين القوى، وأنه أصبح أحد أهم أدوات الاشتباك الجديد بين الدول، ليتجاوز بكثير دوره التقليدي باعتباره وسيلة لنشر الأخبار أو تسليط الضوء على قضية إنسانية أو أمنية فقط، وإنما هو رأس الحربة في إدارة الحروب والأزمات السياسية بين الدول.

كما كشفت الحرب غياب المصداقية لصالح التهويل والإثارة، ففي الحروب والصراعات لا تلتزم أغلب وسائل الإعلام وحتى التي توصف أحيانا بـ "المحايدة" بالموضوعية، وتقع في دائرة فخ "الكذب الإعلامي" وهذا يكون مقصودا في أغلب الأحوال، لأن الإدارة الإعلامية تكون هنا "مسيسة" وليس أدل على ذلك الطريقة التي تعاملت بها وسائل الإعلام الغربية التي اعتمدت في كثير من الأحيان على مصادر "مجهولة" في نشر العديد من تقاريرها التي امتلأت بالمغالطات والأكاذيب، متجاوزة في ذلك قواعد وأصول العمل الإعلامي، التي تنحاز دوما للحقيقة على حساب أي اعتبارات أخرى.

 

الأمريكيون يجهلون الحقيقة

 

يوم الاثنين 9 يناير 2023 كشف المذيع الأمريكي الشهير تاكر كارلسون في برنامجه اليومي على قناة "فوكس نيوز" حقيقة ما يحدث في الصراع الأوكراني، متهما السلطات الأمريكية بحجب الحقيقة عن الجمهور.

وأضاف كارلسون إن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية، بضغط مباشر من الحكومة تحجب كثيرا من الأحداث التي تدور حول العالم، لاسيما القصص المهمة التي تؤثر على حياة الشعب الأمريكي.

وأشار كارلسون إلى أن المقصود هو "ترك سكان الولايات المتحدة يجهلون القضايا التي تؤثر على حياتهم"، حيث تطرق المذيع الأمريكي إلى أنه إذا ما سألت جارك عمن ينتصر في "الحرب الأوكرانية" فسيجيبك على الفور بأن "أوكرانيا تنتصر"، لأن ذلك، وفقا لكارلسون، "ما يراه الجميع كل صباح على مدار الأحد عشر شهرا الماضية، وليس فقط في برنامج Today Show، وإنما في كل منفذ إعلامي تقريبا في الولايات المتحدة، باستثناء الكولونيل دوغلاس ماكغريغور، الذي استضفناه هنا، ولا داعي للقول إنه اتهم بأنه عميل لبوتين".

وتابع كارلسون بأن تلك الرواية هي ما يرددها الجميع، حيث يصرح بها السفير السابق للولايات المتحدة الأمريكية لدى روسيا مايكل ماكفول، وهيلاري كلينتون، والمقاول لدى وزارة الدفاع، باري ماكافري، وغيرهم.

إلا أن الصدمة هي الشعور الذي وصفه تاكر كارلسون لدى القارئ الأمريكي حينما نشرت كوندوليزا رايس وروبرت غيتس في مقال افتتاحي في "الواشنطن بوست" بداية يناير، وهما يقران بأن أوكرانيا تخسر خسارة فادحة، حيث يكتب الثنائي، وفقا لكارلسون، أن أوكرانيا سوف تنهار ما لم تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في تمويل الجيش والاقتصاد الأوكرانيين إلى الأبد ومحاربة روسيا مباشرة.

وكانت جريدة "واشنطن بوست" قد نشرت مقال رايس وغيتس، وجاء فيه: "إن اقتصاد البلاد في حالة من الفوضى، فيما هرب الملايين من سكانها، ودمرت بنيتها التحتية، ويخضع جزء كبير من ثروتها المعدنية وقدراتها الصناعية وأراضيها الزراعية الكبيرة تحت السيطرة الروسية. وتعتمد القدرة العسكرية والاقتصاد الأوكرانيان الآن بشكل كامل على شرايين الحياة القادمة من الغرب، ومن الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول. وفي غياب اختراق أوكراني كبير، ونجاح ضد القوات الروسية، ستزداد الضغوط الغربية على أوكرانيا للتفاوض على وقف إطلاق النار مع مرور أشهر من الجمود العسكري. في ظل الظروف الراهنة، فإن أي اتفاق لوقف إطلاق النار من شأنه أن يترك القوات الروسية في وضع قوي لاستئناف هجومها عندما تكون جاهزة".

 

الحرب ستنهي عام 2023

 

يوم 14 يناير 2023 أكد ضابط الاستخبارات الأمريكية المتقاعد سكوت ريتر، عبر قناة Syriana Analysis على "يوتيوب": "روسيا ستنتصر هذا العام. وبالطبع ستكون القيادة الروسية هنا في حل من أي التزامات أو مهل، وقال أنا هنا أتحدث بصفتي محللا مستقلا". وأضاف: "قوات كييف تتكبد خسائر بشرية فادحة"، ورغم دعم الناتو الكبير، إلا أنها لا تستطيع تعويض الأسلحة والقوى البشرية التي يتم تدميرها في ساحات المعركة.

قبل ذلك بأيام وبتاريخ 26 ديسمبر 2022 ذكرت صحيفة فايننشال تايمز: إن القوات الأوكرانية تتكبد خسائر فادحة وهي منهكة بشدة جراء المعارك الدائرة في دونباس.

ونقلت الصحيفة عن مستشار دفاعي غربي لم تذكر اسمه، قوله: "القوات الأوكرانية بالطبع تواجه مشاكلها الخاصة. لديها خسائر كبيرة، والعديد من أفرادها تحت التدريب، ومن الواضح أن بعض الوحدات تعاني من إجهاد شديد".

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، قد نشرت في وقت سابق بيانا في 30 نوفمبر، تحدثت فيه عن مقتل 100 ألف جندي أوكراني. ولكن في وقت لاحق، تم حذف الفقرة الخاصة بعدد القتلى والمصابين بالكامل من البيان المكتوب والفيديو لرئيسة المفوضية الأوروبية بسبب احتجاج كييف.

من جانبه أكد السياسي الأمريكي المرشح لمنصب حاكم ولاية كنتاكي، جيفري يونغ، أن روسيا تواصل نجاحها بعمليتها العسكرية في أوكرانيا.

وذكر يونغ على مواقع التواصل الاجتماعي: "لا تزال أوكرانيا وحلف "الناتو" يخسران بشكل حاسم، بينما لا تزال روسيا تنتصر بثبات. هذا هو الحال منذ بداية مارس 2022 حتى اليوم".

كما أكد السياسي الأمريكي أن الذين ينكرون وجود النازية في أوكرانيا يخدعون أنفسهم. وفي تغريدة على حسابه في موقع تويتر قال يونغ: "إن أي شخص ينكر وجود نظام نازي ودمية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الناتو في أوكرانيا اليوم يكذب على نفسه أو على العالم بأسره أو كليهما".

يوم 29 ديسمبر 2022 ذكر الصحفي فرانسيس سيمبا في مقالة لمجلة American Spectator، إن الولايات المتحدة بدأت تدرك وتقر بحتمية هزيمة أوكرانيا في النزاع، الذي أثاره خطأ واشنطن الفادح في توسيع الناتو شرقا.

وأضاف في المقال: "من حيث الجوهر، تحث إدارة بايدن أوكرانيا على مواصلة الأعمال القتالية على الرغم من أنها لا تعتقد بوجود أية إمكانية للانتصار لدى سلطات كييف".

وتهدف الكلمات الرنانة من الساسة الأمريكيين بشأن النتيجة المصيرية للأزمة الأوكرانية، إلى “حشد الجهود لزيادة المساعدة المقدم إلى زيلينسكي”. ويعتقد الصحفي الأمريكي، أن المقترحات المتعلقة بتعزيز الترسانة العسكرية الأوكرانية، هي خطاب يفتقد للمسؤولية، ويمكن أن تكون له عواقب وخيمة.

وأكد الصحفي أنه حتى صقور الحرب، يتجنبون الدعوة لإرسال قوات الناتو إلى منطقة النزاع.

وأضاف الكاتب، أنه لا ينبغي لأحد أن ينسى “الجوانب المزعجة” لأصل الأزمة الحالية في أوروبا، لأن تصرفات الغرب هي التي تسببت في ذلك.

الأمر الأكثر خطورة في الحرب على أوكرانيا هو تقلص تعداد سكانها بشكل خطير ليس فقط بسبب ضحايا القتال ولكن بسبب الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي أساسا أو الالتحاق بالاتحاد الروسي والمناطق التي ضمها اليه. 

كان عدد سكان أوكرانيا، في بداية العام 2022، أقل بقليل من 37 مليون نسمة. وبعدها، غادر أكثر من 10 مليون نسمة، معظمهم من النساء والأطفال، البلاد إلى أوروبا. ويعيش عدة ملايين آخرين في الأراضي التي أصبحت جزءا من روسيا.

للدقة هناك إحصائيات مختلفة حول اللاجئين بسبب تنقلهم المتواصل وعودة بعضهم إلى أوكرانيا، وفق البيانات الصادرة في شهر يونيو 2022، سجلت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين حوالي 7.3 مليون حالة عبور للحدود من أوكرانيا حتى تاريخ 7 يونيو، مع عودة 2.3 مليون شخص مرة أخرى إلى البلاد. 

في ديسمبر 2022 أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنه منذ بدء العملية الروسية في فبراير وحتى 6 ديسمبر 2022، بلغ عدد اللاجئين الأوكرانيين 7832493 لاجئا، استقبلت روسيا 2852395 منهم.

وهكذا، فإن من يعيش في باقي أوكرانيا بالكاد يبلغ 23-24 مليون نسمة، مئات الآلاف منهم موجودون الآن على الجبهة الشرقية.

كلما طال أمد الحرب، قل احتمال عودة اللاجئين إلى وطنهم بكامل عددهم. فقد اندمج الكثير منهم، عمليا، وبنجاح في الواقع الأوروبي، ووجدوا وظائف هناك، وبدأوا دراستهم.

حتى قبل بداية الحرب في 24 فبراير 2022، كان تعداد سكان أوكرانيا في انخفاض بسبب نقص المواليد وعدم تعويض الوفيات وقد بلغ الانخفاض الطبيعي في عدد السكان نصف مليون سنويا.

 

رواية مخالفة 

 

رغم مرور زهاء 11 شهرا على بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا كما تسميها موسكو، ومواصلة سيطرة قواتها على ما بين 25 و 22 في المئة من مساحة أوكرانيا حوالي 160 الف كلم مربع رغم الهجمات الأوكرانية المضادة وتدفق عشرات الآلاف من المتطوعين الأجانب أو خبراء الغرب العسكريين وما قيمته أكثر من 42 مليار من مختلف المعدات العسكرية الغربية يستمر الموقف الرسمي والإعلامي لقيادة تحالف الناتو وبشكل مركز خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا في التأكيد أن أوكرانيا ستلحق الهزيمة بالجيش الروسي وسوف تسترجع كامل الأراضي المتنازع عليها.

جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 12 يناير 2023 تتواصل المعارك العنيفة بين القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية للسيطرة على بلدة سوليدار بشرق أوكرانيا، في قتال يعد "الأكثر دموية" بين موسكو وكييف منذ بداية الغزو الروسي.

وكما كان الحال في كثير من الأحيان مع المكاسب والخسائر في ساحة المعركة، هناك تقارير متضاربة من الجانبين الروسي والأوكراني حول نجاح تقدم روسيا إلى المدينة.

وأكدت القوات المسلحة الأوكرانية أن "القوات الروسية لا تسيطر على سوليدار".

وأفاد المتحدث باسم المجموعة الشرقية للقوات المسلحة الأوكرانية سيرهي شيريفاتي، إن "المعارك مستمرة هناك. القوات المسلحة الأوكرانية وقوات الدفاع الأخرى تعيد تجميع صفوفها، وفقا لتقرير لشبكة "سي إن إن" الإخبارية.

وأوضح أن القوات الأوكرانية تزود وحداتها بالذخيرة والطعام، واصفا الوضع بأنه "تحت السيطرة"، مضيفا أنه يتم البحث عن خيارات "لتحسين الوضع التكتيكي".

وفي سياق متصل، قال ميخايلو بودولياك، مستشار الرئاسة الأوكرانية "كل ما يحدث اليوم في باخموت وسوليدار هو السيناريو الأكثر حصدا للأرواح لهذه الحرب"، وفقا لـ"فرانس برس".

وأشار بودولياك إلى أن الخسائر العسكرية الروسية "هائلة" و"الجيش الأوكراني يخسر رجالا أيضا"، وقال "إنها بالتأكيد أكثر من تلك المسجلة في مكان آخر من قبل".

وزارة الدفاع البريطانية اعتبرت أن سيطرة القوات الروسية على سوليدار ستفتح لها الطريق حتما للسيطرة على باخموت البعيدة عنها عشرة كيلومترات.

قائد مجموعة "فاغنر" الروسية أكد في وقت سابق، الأربعاء 11 يناير، أن وحداته "حصرا" شنت الهجوم على سوليدار وسيطرت عليها "بالكامل". وبعد 24 ساعة أكدت وزارة الدفاع الروسية الخبر.

تقع سوليدار المعروفة سابقا بمناجم الملح في وسط منطقة دونباس وعلى بعد حوالي عشرة كيلومترات شمال شرق باخموت التي يدافع الأوكرانيون عنها بضراوة منذ عدة أشهر في مواجهة سلسلة هجمات تشنها القوات الروسية.

وكان عدد سكان البلدة الواقعة شرق أوكرانيا يبلغ قبل الحرب أكثر من 10 آلاف نسمة، وأصبحت هدفا للقوات الروسية منذ مايو 2022. 

ليس للبلدة "قيمة إستراتيجية" في حد ذاتها، لكنها نقطة وسيطة في مسار استنزاف الروس غربا، حسب "سي إن إن".

وتضم المنطقة المحيطة بسوليدار مناجم ملح كبيرة تابعة لشركة أرتيمسيل الحكومية، أكبر منتج للملح في أوروبا، والتي أوقفت الإنتاج بعد فترة وجيزة من الغزو الروسي. 

وتوجد بالمنطقة المحيطة بالبلدة "احتياطيات ضخمة من الملح النقي جدا والتي لم يتم استغلالها إلا على نطاق صناعي منذ عام 1881"، وفقا للمسار الأوروبي للتراث الصناعي.

يقول الأمريكيون أن أهمية سوليدار من الناحية العسكرية ضئيلة، لكن الاستيلاء عليها سيمنح الأفضلية للقوات الروسية في ظل قتالها للاستيلاء على مدينة باخموت، على بعد عدة كيلومترات إلى الجنوب الغربي.

ومن شأن سوليدار أن تصبح نقطة انطلاق في توجه موسكو للاستيلاء على منطقة دونباس الصناعية الشرقية بأكملها، وفقا لـ"رويترز".

وذكر دينيس بوشيلين، زعيم الجزء الذي تسيطر عليه روسيا من دونيتسك، إن السيطرة على سوليدار ستتيح الاستيلاء على بلدات أكثر أهمية باتجاه الغرب.

وفي سبتمبر، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضم أربع مناطق هي دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون التي يسيطر عليها الجيش الروسي جزئيا، بعد إجراء "استفتاءات" محلية.

واستهدفت روسيا سوليدار لتصبح منصة انطلاق لمهاجمة مدينة باخموت القريبة، والتي صمدت لأشهر في مواجهة هجوم روسي وهي مركز لخطوط الإمداد في شرق أوكرانيا، حسب "رويترز".

ولن تسمح السيطرة على سوليدار بالضرورة للقوات الروسية بممارسة سيطرتها على خطوط الاتصال الأرضية الأوكرانية المهمة في باخموت، والتي تعد "الجائزة الأكبر"، وفقا لتقرير لمعهد "دراسات الحرب" ومقره واشنطن.

 

دعوات التفاوض تخدم بوتين

 

يوم 12 يناير 2023 انتقد كاتب أمريكي المبادرات التي تستهدف دفع روسيا وأوكرانيا إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات لوضع حد للحرب الدائرة الآن، وقال إنها تصب في مصلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ولفت إلى أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام الكونغرس الأمريكي شهر ديسمبر 2022 جاء في وقت حرج، ليس فقط لأن كييف تواصل استخدام العتاد الغربي لطرد وتدمير القوات الروسية المتحصنة في جبهات القتال، بل لأن الدعوات بشأن إبرام تسوية لإنهاء الحرب تكتسب أيضا زخما في واشنطن.

وأوضح كيسي ميشيل، الصحفي والباحث في معهد "هدسون" والمقيم في نيويورك، في مقال بصحيفة "وول ستريت جورنال"، أن أولى الدعوات للمفاوضات انطلقت في أكتوبر 2022 من أعضاء في التجمع التقدمي بمجلس النواب الأمريكي، وهي مجموعة من المشرعين تعمل على دفع أجندة أكثر تقدمية في الهيئة التشريعية.وأضاف أن تلك الدعوات تجددت من شخصيات مهمة في الأسابيع الأخيرة.

وقبيل وصول الرئيس الأوكراني إلى واشنطن بأيام قليلة، كتب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنغر مقالا حث فيه الغرب على الضغط على أوكرانيا من أجل "سلام عبر التفاوض".

ويزعم ميشيل في مقاله أن من شأن الدعوات من أجل التفاوض أن توعز إلى الرئيس بوتين بأن إستراتيجيته الوحيدة المتبقية قد تؤتي أُكلها، وهي إستراتيجية قائمة على ترقب ما ستؤول إليه الأمور في الغرب، أملا في حدوث انقسام أوسع في صفوف الغربيين الداعمين لأوكرانيا.

 

جنرال ألماني ومصير دونباس

 

صرح الجنرال الألماني إريك واد، في مقابلة مع مجلة Emma يوم 13 يناير 2023، إن وحدات الجيش الروسي ستفرض قريبا سيطرتها على أراضي دونباس بأكملها.

وأضاف إريك واد، الذي عمل كمستشار لشؤون السياسة العسكرية لدى المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل: "في شرق أوكرانيا، في منطقة باخموت "الاسم الأوكراني لمدينة أرتيوميفسك"، يتقدم الجيش الروسي بشكل واضح. ومن المحتمل أن يتمكن من السيطرة قريبا على دونباس بالكامل".

ويرى الجنرال الألماني، أن الغرب قد يزود القوات الأوكرانية بناقلات الجنود المدرعة من طراز Marder وبالدبابات من طراز Leopard، ولكن ذلك لن يغير أي شي من الوضع في ساحات القتال هناك".

وتعود أهمية الوضع في منطقة أرتيوموفسك، المركز اللوجستي الرئيسي، لكونه سيسمح لروسيا بوضع قواتها المدفعية في مواقع جديدة، وزيادة الضغط على خطوط الإمداد الأوكرانية المؤدية إلى مدينة أرتيوموفسك، وبالتالي اختراق الجبهة الممتدة على خط أرتيوموفسك-سيفيرسك، حيث تقع المدينة على عدد من الطرق الرئيسية في المنطقة، وستسمح السيطرة عليها بالتحرك نحو المدن الكبيرة التي ما زالت تسيطر عليها كييف في دونباس، مثل سلافيانسك وكراماتورسك.

في نطاق الخروج النادر لبعض وسائل الإعلام الغربية عن المسار الموجه وبتاريخ 11 يناير 2023 ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن القوات المسلحة الأوكرانية تكبدت خسائر فادحة في المعارك بالقرب من أرتيوموفسك، وأفادت الصحيفة نقلا عن أحد قادة القوات المسلحة الأوكرانية المتواجدة بالقرب من أرتيوموفسك "حتى الآن، خسائرنا تفوق خسائر الروس. إذا استمر الحال على هذا النحو، من الممكن أن نتراجع".

وتشير الصحيفة إلى أن المسؤولين الغربيين والأوكرانيين، على خلفية الخسائر التي يتكبدها الجيش الأوكراني يدعون لمغادرة أرتيوموفسك والانتقال إلى خط دفاع جديد. وقد أيد هذا المنحى جميع القادة الذين استطلعتهم الصحيفة في الميدان.

في 10 يناير، قال القائم بأعمال رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية، دينيس بوشيلين، أنه بعد تحرير سوليدار، سيتم توجيه كافة الجهود لتحرير أرتيوموفسك وسيفيرسك. وتقع هذه المدن على أراضي جمهورية دونيتسك. في حين يتواصل القتال العنيف في أرتيوموفسك.

 

شراكات جديدة بعيدة عن الغرب

 

تغيرت دبلوماسية موسكو بشكل واضح بعد حملة العقوبات الغربية التي فرضت عليها بسبب الحرب، لتبحث عن شراكات جديدة وأندية جديدة بعيدة عن الغرب في هذا الصراع مما يعزز جهود تعديل النظام العالمي الأحادي القطب.

بعد أيام قليلة من الهجوم الروسي وجهت وزارة الخارجية الأمريكية الإدارات والوكالات لإلغاء معظم الاتصالات بين الحكومات مع المسؤولين الروس.

وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية إن الدبلوماسية الغربية مع روسيا قد تقلصت إلى مجرد عدد قليل من القضايا الاستثنائية -مثل المحادثات النووية الإيرانية- والمشاركة متعددة الأطراف في مؤسسات مثل الأمم المتحدة. في غضون ذلك، بحثت روسيا -وفي بعض الحالات أنشأت- منتديات دبلوماسية جديدة تتجنب الأماكن القائمة التي نبذت عنها. 

تقول "فورين بوليسي"، أصبح من الواضح في البداية أن الدبلوماسية كانت تتغير عندما انضمت سويسرا إلى حملة العقوبات ضد روسيا، وانتقد الكرملين الدولة المحايدة تقليديا. 

ومنذ ذلك الحين، رفضت روسيا العروض السويسرية لاستضافة محادثات حول مجموعة متنوعة من القضايا. في أبريل، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنها لم تعد تعتبر جنيف منصة مقبولة لعقد اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا للإشراف على معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الجديدة، مستشهدة بـ"الإجراءات غير الودية" لسويسرا.  

وفي حديثه على هامش اجتماع جنيف بشأن سوريا في يونيو، انتقد المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، سويسرا بالمثل، واقترح أن تنقل اللجنة الدستورية السورية -وهي جمعية تأسيسية تيسرها الأمم المتحدة ومقرها جنيف- إلى موقع "أكثر محايدة". وعندما اجتمعت اللجنة آخر مرة، ورد أن روسيا كانت مستاءة من تعامل السلطات السويسرية مع تأشيرات الدخول لوفدها و"البرود العام في الاستقبال". طاف لافرينتييف أبوظبي والجزائر والمنامة ومسقط وعواصم بديلة ممكنة. 

في الوقت نفسه تقريبا، قررت وزارة الخارجية الروسية أن المناقشات الدولية حول جنوب القوقاز لم يعد من الممكن عقدها في جنيف. ورفضت روسيا عرضا قدمته برن لتمثيل المصالح الأوكرانية في روسيا -على سبيل المثال، في الشؤون القنصلية- والعكس صحيح. وعلى نطاق أوسع، أصبحت روسيا غاضبة من الرفض الأمريكي لمنح الدبلوماسيين الروس تأشيرات لحضور فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عدة مرات.  

وردا على ذلك، طرحت موسكو الفكرة التي يصعب تحقيقها حاليا وهي نقل مقر الأمم المتحدة إلى مدينة أخرى، ما ينذر بدعم عدد متزايد من البلدان لمثل هذه الخطوة.

أدى رفض روسيا للأماكن التقليدية للدبلوماسية الدولية -مثل سويسرا- إلى ظهور وسطاء جدد في المقدمة. منذ فبراير 2022، قبلت روسيا الوساطة التركية في مجموعة متنوعة من القضايا المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، وأهمها التفاوض على اتفاقية يوليو لتأمين تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية. 

وفي الربيع، استضافت أنقرة بالفعل محادثات سلام روسية أوكرانية أولية، أطلق عليها اسم "عملية إسطنبول" -وهي سلسلة من الاجتماعات بين وفدين روسي وأوكراني متوسطي المستوى- وضغطت بنجاح إلى حد ما من أجل إنشاء ممرات إنسانية أثناء الحصار الروسي لماريوبول بأوكرانيا. 

وفي الآونة الأخيرة، استضافت إسطنبول المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي وأليكسي ليخاتشيف، الرئيس التنفيذي لشركة روساتوم الروسية للطاقة النووية، لمناقشة مهمة الوكالة الدولية للطاقة الذرية القادمة إلى محطة الطاقة النووية زابوروجييه التي تسيطر عليها روسيا ولكن تشغِلها أوكرانيا.

 

التعاون العدائي

 

ينبع استعداد روسيا لقبول الوساطة التركية من تجربة البلدين في الانخراط في نزاعات متعددة -في سوريا وليبيا ومنطقة ناغورنو كاراباخ- من خلال ما أطلق عليه البعض "التعاون العدائي". لطالما تعاونت موسكو وأنقرة وتنافستا في هذه الأماكن. وتقول "فورين بوليسي" إن العلاقة الروسية التركية تفتقر إلى أساسمتين، وتشكل الرابطة الشخصية بين أردوغان وبوتين العمود الفقري لها. ومع ذلك، فقد توصل الجانبان إلى تقدير فاعلية المعاملات بينهما. عندما تمنح روسيا تركيا حرية التوسط في أوكرانيا، فإنها تتعامل مع خصم تعرفه، بينما تستمتع أيضابفرصة خلق انطباع بأن أحد حلفاء الناتو يلعب بشكل جيد مع موسكو. 

بالإضافة إلى تركيا، يعمل الدبلوماسيون الروس أيضا على ترسيخ أماكن بديلة أخرى للدبلوماسية. صيف 2022 ذكر أن الأرجنتين وإيران ومصر والمملكة السعودية وتركيا قد تنضم إلى مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. جادل بوتين في يونيو بأن من المتوقع أن تقود دول البريكس "تشكيل نظام متعدد الأقطاب حقيقي للعلاقات بين الدول". 

وتسعى روسيا للاستفادة من التجمع في مساعيها للالتفاف على العقوبات المالية الغربية، وقد أعلنت مؤخرا أن الهند وإيران ستتبنيان نظام الدفع الروسي مير. وفي غضون ذلك، يبالغ المسؤولون الروس في أهمية منظمة شنغهاي للتعاون -التي اجتمعت في أوزبكستان- بما في ذلك التعاون العسكري الدفاعي. 

ومن المسلَم به أن تشكيل روسيا للأماكن الدبلوماسية البديلة ليس جديدا ولا شاملا. منذ عام 2017، على سبيل المثال، انخرطت روسيا بشكل أساسي في سوريا في "مجموعة أستانا"، التي تضم إيران وتركيا. 

ويعد مصطلح "دبلوماسية الشبكة" -الذي تفهمه موسكو على أنه "نهج مرن للمشاركة في الآليات المتعددة الأطراف من أجل إيجاد حلول فعالة"- صدر بالفعل في مفهوم السياسة الخارجية لروسيا لعام 2016. لكن في ذلك الوقت، جادل النقاد الروس البارزون بأن الهياكل الدبلوماسية الجديدة التي بدأتها روسيا لن تصبح "أدوات السياسة الرئيسية" لروسيا. 

يبدو أن هذا يتغير. اكتسب سعي روسيا لطرق دبلوماسية بديلة وشراكات جديدة إلحاحا منذ فبراير. ومؤخرا، قال لافروف إن وزارته أعادت تكليف عدد كبير من موظفيها الدبلوماسيين بمقرها في موسكو أو سفاراتها في "الدول الصديقة". وتعهد وزير الخارجية بأن روسيا ستعزز التعاون مع كومنولث الدول المستقلة -مجموعة من الدول السوفيتية السابقة في آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط- "بمعدل متسارع".

 

ضغط أوروبي فاشل

 

مقابل نجاح موسكو في كسر الحصار الغربي حاولت ألمانيا وفرنسا منتصف شهر يناير 2023 بدون جدوى، كسر الحياد الأفريقي تجاه الأزمة في أوكرانيا، فقد دعت الدولتان الأوروبيتان، في مؤتمر الاتحاد الأفريقي، إلى تحرك أفريقي يدين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

وتحدثت وزيرتا الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك والفرنسية كاثرين كولونا، مع نظرائهما الأفارقة عن "القيم المشتركة" التي تتطلب إدانة روسيا، غير أن الدول الأفريقية ترفض الانضمام إلى أي معسكر بشكل صريح وذلك لحاجتها الشديدة للطرفين، الغرب وروسيا.

وقالت بيربوك في خطاب لزعماء الاتحاد الأفريقي في مقر الاتحاد بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إن ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى تعتمد على دعم من أفريقيا. وأوضحت: "نحن كأوروبيين نحتاج إلى دعم من أصدقائنا وشركائنا على مستوى العالم في أوقات يتم فيها الهجوم على السلام في أوروبا.. نحتاج إلى إفريقيا للدفاع عن السلام. لا يمكننا حل هذه الأزمات المشتركة وتخطي التحديات إلا بالعمل معا".

وتحدثت بيربوك إلى جانب وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقيه محمد. ودعت بيربوك الاتحاد الأفريقي أيضا إلى دعم إجراء إصلاحات في مجلس الأمن من شأنها زيادة مقاعده الدائمة، وتخصيص مقعدين لأفريقيا. وأضافت بيربوك أن الأوروبيين والأفارقة جيران لا جغرافيا فحسب بل ومن خلال قلوبهم أيضا.

وشددت وزيرة الخارجية الفرنسية أيضا على أهمية التعاون متعدد الجوانب وذكرت أن العملية الروسية "تهدد المبادئ الرئيسية لميثاق الأمم المتحدة".

وتشير مصادر رصد أوروبية أن فشل الغرب في إجبار أفريقيا على تعديل سياستها المحايدة يضاف إلى الفشل الغربي المسجل مع دول أمريكا اللاتينية والهند وغالبية دول الشرق الأوسط ودول جنوب آسيا.

 

عمر نجيب

[email protected]