أمراض النخبة ومحنة الوطن!

اثنين, 2021-01-11 22:18

الأدبيات السياسية والأدبية والفنية فى أصولها تشر إلى أن النخب تتمتع بوضع متميز فى المجتمع لأن لها أدوارا  إيجابية فى تقدم المجتمع والدفاع عن قيمه.

ففى المجتمع الديمقراطى تكون الكلمة العليا للكفاءة من أى نوع ويكون المنصب العام ملكا للمجتمع وليس ملكا للحاكم وبذلك يتمتع عضو النخبة بوضع محترم سواء من جانب المجتمع أو من جانب المنصب الذى يؤهلة مواهبه. وكان من النخب نوع فى جميع قطاعات الحياة وهم المبرزون فى كل حقل من حقول حياة المجتمع فى التعليم والثقافة والصحة والرياضة والفن وغيرها يكون ذخرا للمجتمع. وهذه النخب تصنعها مواهبها والمجتمع ولا تصنعها الحكومة بل إن النخب القريبة من الحاكم فى النظم الديمقراطية تدور حولها الشبهات.

وعلى الجانب الآخر انحرفت النظم الدكتاتورية والمستبدة والشمولية فى أوروبا والشيوعية فى الدول التى دخلتها، فأرادت تنميط المجتمع كله بعد أن استولت على المقدرات المادية وحشدت الشعب بجميع شعبه وفئاته لكى تسير فى فلكها فكانت النخب القريبة من السلطة فى ألمانيا مثلا أيام هتلر تفخر بأنها تعلو على المجتمع وتزين صدره باعتبارها لصيقة الصلة بالزعيم معبود الشعب الألمانى وكذلك الحال إلى حد ما فى إيطاليا الفاشية، والفاشية والنازية أوصاف سلبية أطلقها الأمريكان على إيطاليا وألمانيا كجزء من الحرب النفسية لاقتلاع النازية والفاشية لأنها كانت غطاء الوطنية الألمانية والإيطالية المتطرفة وبفضل إسهامات الكتاب الإيطاليين خاصة اليسار الإيطالى فى القرن التاسع عشر بعد الوحدة الإيطالية، نشطت دراسات النخبة ويعزى للألمان دراسات الزعامة والقيادة والشخصية الكارزمية وأسس الشرعية ويضيق المقام عن إسداء الفضل لأهله فى كل من إيطاليا وألمانيا.

المهم أن النخب التى استبقها الحاكم حرمت المجتمع من تأكيد الأصالة، كما حرمت المجتمع من قيادته الطبيعية التى تكون عادة قيدا على شرود الحاكم وحماية المجتمع من تغول الحكومة فى إطار الدولة.

أما فى مصر فقد شهدت فى الستينيات شطرا من تاريخ النخب المحترمة فى كل المجالات العسكرية حتى فى ظل كارثة 1967 وفساد القيادة السياسية والعسكرية وتمكين إسرائيل من شرفاء العسكرية المصرية وهم الذين استعادوا شرف مصر فى الأيام الأولى من حرب أكتوبر قبل أن يتدخل السادات كما تدخل هتلر مما أورث ألمانيا ومصر الغصة. يكفى أن نشير إلى مذكرات الفريق الشاذلى والمشير الجمسي  وهو يجهش بالبكاء عندما همّ بالتوقيع على اتفاق فك الاشتباك المعروف باتفاق الكيلو 101 بين السويس والاسماعيلية عام 1973 لعلاج الثغرة بهذه الطريقة وأنا أطالب بالتحقيق الشفاف فى هذه الثغرة، لقد سجل التاريخ العسكرى الفردى بطولات فردية وسط ظلام الهزائم.

كذلك شهدت طول قامة المثقفين الذين كانوا درة المجتمع ولكن انحرفت شرائح من النخب جهلا أو حقدا ضد مصر مثل توفيق الحكيم الذى

 أخر سته دكتاتورية عبدالناصر وانفتحت شهيته بعد كامب دافيد فأشاع أن مصر ليست عربية وكان ذلك على هوى السادات. وكان أحمد بهاء الدين مثالا للنخب الإعلامية التى جرؤت على الانحياز للوطن يوم كان الحاكم كديك نزار قبانى لكنه لا يؤذن للصلوات فلجأ فى منفى اختيارى إلى الكويت وعاد بعد 1967 ليكتب فيما زوره هيكل فيلسوف الاستبداد والذى استبعده من النخب المصرية رغم علو كعبه السياسى والإعلامى لكنه فى الخط المضاد لمصالح الوطن فيما أظن.

والنخب فى مصر قسمان: نخب طافية فوق ذهب المعز ونخب خائفة من سيفه، فاختارت بعض النخب إحدى المعسكرين، بل إن بعض النخب أبدعت فى معارضة مبارك وقد صنفت النخب بالاسم تصنيفا شخصيا غير منشور لكننى احترت فى الشعراء فهذا فاروق جويدة يكتب رائعته هذى بلاد لم تعد كبلادى، وأصيب فى سبيل ذلك بذبحة قاتلة، لكنه فيما يبدو آثر الحياة على الموت المادى والمعنوى عندما ضاقت أمامه الخيارات وهى خيارات على صدرى أو تحت دفاتر أشعارى فهى إما أن تموت حبا أو تموت ثقافة وشعرا، وقال فى نفس القصيدة فاختارى الحب أو اللاحب فعار ألا تختارى وقرر أنه لا ثالث لهما كما لا ثالث بين الجنة والنار.

وتذكّرت قول شوقى:

 وجنة بمذلة ما ارضى بها

وجهنم بالعز أفخر منزل.

كما تذكرت فضل المتنبى عندما ذكّره خادمه ببيت الشعر الذى كان يفخر فيه بفروسيته عندما فرّ  أمام قطّاع الطرق الذين خرجوا عليه وهو يهم بالخروج من مصر أيام الإخشيد.

أما العلم الشعرى الثانى فهو فاروق شوشة الذى استخرج الدر الكامن من اللغة العربية وكنت مغرما بشعره خاصة قصيدته وعنوانها: أيها القزم الذى يعرف نفسه فهو يذم المنافقين لكنى فوجئت به يكتب قصيدة تحية لعمرو موسى عندما عين أمينا عاما للجامعة العربية يقول فيها ياقادما مثل المسيح تعيد للجسد المسجى روحه   أى أنه جاء لكى يبعث الروح فى الجسد العربى الميت، فلماذا امتدح عمرو موسى بما ليس فيه؟ هو كان يسعى إلى رضاه أم أنه استغلق عليه مثلما استغلق على ملايين الضحايا فانبهروا بالشعاع المصطنع وبهذه المناسبة فقد أفسد على عقلى متعة الاستماع إلى أغانى عبدالحليم وأم كلثوم السياسية فهل  هم مخدوعون  مثلنا أم أنهم كانوا يعتقدون حقا فيما يغنون.

 لقد تربينا وقرأنا تاريخا من أغانى عبدالحليم حافظ فى التأميم واليمن والاشتراكية ولكن يكفى أن عبدالحليم كان يبكى  بحرقة وهو يغنى بأعصابه رائعة عبدالرحمن الأبنودى “عدى النهار والمغربية جيه بتتخفى ورا ظهر الشجر علشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر وبلدنا فى الترعة بتغسل شعرها جانا نهار ما قدرش يدفع مهرها.

أبدأ بلدنا بالنهار بتغنى موال النهار لما يعدى فى الغيطان ويغنى قدام كل دار.”

وكنا نبكى معه وندرك حجم المأساة لكننا لم نفهم بالضبط ما حدث وصعقنا عند عرفنا أننا خدعنا وكانت النخب تجتهد فى تغييب عقولنا.

لو صحت النخب لصحت مصر ولكن نكبة مصر فى نخبها التى تخلت عن دورها الحقيقى تجاه الحاكم والمحكوم وبيان مصالح الوطن ومدى انحراف الحاكم بمصالحه وبنزواته عن مؤشر  مصالح الوطن.

السفير د. عبدالله الأشعل كاتب ودبلوماسي مصري سابق وأستاذ جامعي