الجائحة تعيد رسم خريطة العلاقات الدولية... واشنطن تبحث عن حلفاء يقبلون المخاطرة لمواجهة الصين

أربعاء, 2020-08-19 05:03

مع انقضاء النصف الأول من السنة الأخيرة للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم يعد يمر يوم دون أن تحمل الاخبار أنباء عن اتخاذ خطوات جديدة في الحرب الباردة الدائرة بين أكبر اقتصادين في العالم أي الولايات المتحدة والصين، على عكس ما كان يجري قبل أشهر عندما كانت الضربات المتبادلة متباعدة إلى حد ما زمنيا. بعض الملاحظين وأمام هذا التصعيد في المواجهات حذروا من أن العالم يقترب أكثر فأكثر من تحول الصراع المقتصر حتى الحين على الإجراءات الاقتصادية والسياسية إلى مواجهة عسكرية.
المبادرات المتخذة في هذا الصراع اقتصرت تقريبا على الحكومة الأمريكية، بينما كانت الصين ترد من حين لآخر بردود فعل كان أمل واضعيها إشعار الرئيس الأمريكي ترمب وطاقمه السياسي والاقتصادي أن إتباع هذا الاسلوب التصعيدي غير مجد وسيلحق الضرر بالطرفين والبديل هو التفاوض للوصول إلى تسويات. خارج أوساط المحافظين الجدد الذين يعتبرون الرئيس ترمب زعيمهم التنفيذي كانت هناك في واشنطن طبقة من السياسيين والاقتصاديين الذين نصحوا بعدم تصعيد المواجهة مع الصين والعمل على إقامة قاعدة تشاركية بين العملاقين لتسيير الاقتصاد العالمي خلال عقود قادمة.
ترمب المتمسك بشعار أمريكا أولا ومعه انصاره وخاصة هؤلاء من أقطاب المركب الصناعي العسكري رفضوا فكرة التشارك مؤكدين أن الولايات المتحدة وصلت وخاصة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2007 إلى 2008 إلى حافة الهاوية سواء من حيث بنيتها الاقتصادية أو الصناعية وأنها إن لم تنجح في وقف تقدم الصين وعكس مسار تنميتها الصناعي والاقتصادي وتقدمها العلمي وعزلها عن منافذ صادراتها ووارداتها من المواد الخام، فإن على الولايات المتحدة أن تسلم بتراجع مرتبتها الدولية والاستعداد لتقبل نفس المصير الذي لحق بالامبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
رؤية ترمب وأنصاره وإن كانت قد عرفت بعض التفاوت إلا أنها ارتكزت على تقدير قائل إن المواجهة المتنامية سيكون لها تأثير سلبي فوري في الصين، أكبر من ذلك الذي قد تخلفه على الولايات المتحدة، لأن الانفصال الثنائي يغذي عملية جارية أوسع تتمثل في انحسار العولمة. وقد تكون الآثار السلبية غير المباشرة على مجموعة فرعية من الدول، التي أطلق عليه خبير تسمية اقتصادات الخيار المزدوج، كبيرة خصوصا.
خبراء من أنصار سياسة ترمب يضيفون: أن العواقب الضمنية الاقتصادية والمالية المترتبة على جائحة مرض فيروس كوفيد 19 تعمل على توحيد ثلاثة قطاعات في الاقتصاد الأمريكي في الانفصال عن الصين. من غير المرجح أن تنحسر هذه الديناميكية في أي وقت قريب، وسيعزز بعضها بعضا، ما يعني أن مجموع 1 + 1 أكثر من ثلاثة.
بادئ ذي بدء، صعدت الحكومة الأمريكية أخيرا، صراع الضربات المتبادلة الطويل، من خلال فرض عقوبات اقتصادية ومالية ثنائية على الصين، بدعم صريح من الحزبين في الكونغرس الأمريكي. وتعمل لعبة تبادل اللوم عن الجائحة على تعزيز الموقف الأمريكي متزايد الصرامة. أنصار سياسة القبضة الحديدية يقدرون أنه من غير المحتمل أن يتغير الموقف، بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس في نوفمبر 2020.
 رهان
 مع مرور نصف الشهر الثامن من سنة 2020 بينت المعطيات الاقتصادية والسياسية والخاصة بالجائحة أن رهانات ترمب حول تضرر الصين بشكل أكبر تبقى في حكم السراب، مثل الكثير من رهانات سياساته الخارجية خاصة في الشرق الأوسط.
خلال شهر يوليو 2020 ارتفع حجم التجارة الخارجية للصين 6.5 في المائة على أساس سنوي، وزادت الصادرات 10.4 في المائة، والواردات 1.6 في المائة، بحسب ما ذكرته المصلحة العامة للجمارك.
ووفقا لـ"الألمانية"، وصل حجم التجارة الخارجية للصين إلى 2.93 تريليون يوان حوالي 422.12 مليار دولار شهر يوليو، ما أدى إلى فائض تجاري بقيمة 442.23 مليار يوان.
وأوضحت مصلحة الجمارك أنه خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2020، انخفضت التجارة الخارجية للسلع بواقع 1.7 في المائة على أساس سنوي، إلى 17.16 تريليون يوان لتتعافى 1.5 نقطة مئوية مقارنة بالانخفاض المسجل في النصف الأول.
وخلال الفترة من يناير إلى يوليو، ظلت رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" أكبر شريك تجاري للصين، في ظل نمو التبادل التجاري بين الجانبين بواقع 6.6 في المائة على أساس سنوي، إلى 2.51 تريليون يوان، وهو ما يمثل 14.6 في المائة من إجمالي التجارة الخارجية للصين.
وزادت تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي 0.1 في المائة خلال الفترة المذكورة، وانخفضت مع الولايات المتحدة 3.3 في المائة.
إلى ذلك ذكر تقرير إخباري أن وزارة التجارة الصينية تعتزم توسيع نطاق سياسات دعم المصدرين، حيث إن البيئة التجارية العالمية لا تزال تمثل تحديا خلال النصف الثاني من العام.
ونقلت وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا" عن وزير التجارة الصيني تشونغ شان القول إن بيئة التجارة العالمية بالنسبة للصين ستشهد مزيدا من التعقيد وإن الوزارة ستعمل على تقديم مزيد من السياسات التفضيلية، وتطويرها.
وبحسب التقرير الذي أوردته وكالة بلومبيرغ للأنباء، قال الوزير إن السلطات الصينية تسعى إلى توسيع السياسات النقدية لكي تستفيد منها مزيد من الشركات.
وكان الوزير قد قال في تقرير آخر إن الاستثمارات العابرة للحدود شهدت تباطؤا بسبب تداعيات تفشي وباء كورونا، غير أنه أضاف أن "المستثمرين الأجانب الذين يتسمون بالذكاء" لن يتركوا السوق الصينية.
يوم 5 أغسطس 2020 صرح مسؤول بالبنك الدولي إن الانتعاش الاقتصادي الصيني كان أفضل مما كان متوقعا في الربع الثاني من العام الجاري. وأضاف مارتين رايزر، المدير المعني بالصين للبنك الدولي، لوكالة أنباء "شينخوا" في مقابلة حصرية: "بالفعل كان الانتعاش أعلى مما توقعناه في يونيو عندما أصدرنا تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، وقمنا بتحديث توقعاتنا وفقا لذلك".
ونما الاقتصاد الصيني بنسبة 3.2 في المائة على أساس سنوي في الربع الثاني، بعد انكماش بنسبة 6.8 في المائة في الربع الأول، وفقا لمصلحة الدولة للإحصاء.
وأظهرت أرقام واردة من مصلحة الدولة للإحصاء ان الإنتاج الصناعي للقيمة المضافة للصين ارتفع بنسبة 4.4 بالمائة على أساس سنوي في الربع الثاني حيث سرعت المصانع من الإنتاج وسط الجهود المبذولة للسيطرة على كوفيد-19.
كما حققت مؤشرات مثل الإيرادات المالية والتجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر انتعاشا كبيرا، خاصة في يونيو.
وذكر رايزر إن الصين استفادت من فضاء سياسي هام من خلال تنفيذ استجابتها المالية والنقدية.
ولدعم الاقتصاد في مواجهة الصدمة الناتجة عن الوباء، أدخلت البلاد مجموعة من التدابير بما في ذلك المزيد من الإنفاق المالي، وتخفيف الضرائب وخفض فوائد الإقراض ومتطلبات احتياطي البنوك لإنعاش الاقتصاد الذي أضر به فيروس كورونا الجديد ودعم التوظيف.
وقال رايزر: “الإصلاحات الهيكلية لتعزيز الأسواق والمنافسة ستساعد أيضا في تحفيز المزيد من الاستثمار الخاص وإحياء نمو الإنتاجية”.
الوضع كان مقبولا كذلك على مستوى اليد العاملة حيث بلغ معدل البطالة الذي شمله مسح في المناطق الحضرية بالصين 5.7 في المائة خلال يوليو، مستقرا عند نفس المستوى الذي كان عليه خلال يونيو الماضي.
وتم خلق ما مجموعه 6.71 مليون وظيفة حضرية جديدة خلال السبعة أشهر الأولى من عام 2020، بانخفاض 1.96 مليون عن الفترة نفسها من عام 2019.
 المصاعب في أمريكا
 على الساحة الأمريكية كانت المعطيات السلبية هي الغالبة مع وجود مؤشرات عن أن عمرها الاستمراري أطول. فقد أدت إجراءات العزل التي فرضت في ربيع سنة 2020 إلى تسريع دخول الاقتصاد الأمريكي رسميا في حالة ركود مع تراجع تاريخي في إجمالي الناتج الداخلي للبلاد في الربع الثاني من العام الجاري بلغت نسبته 32.9 في المائة. لكن هذا الانخفاض جاء أقل من 35 في المائة كان يتوقعها المحللون و37 في المائة في تقديرات صندوق النقد الدولي. ويشكل تراجع إجمالي الناتج الداخلي للربع الثاني على التوالي الدخول الرسمي في الركود لأول اقتصاد في العالم.
وفي الواقع انخفض إجمالي الناتج الداخلي للولايات المتحدة في الربع الأول 5 في المائة تحت تأثير إجراءات العزل الأولى التي فرضت في مارس.
وبحسب "رويترز"، قالت وزارة التجارة الأمريكية إن الناتج المحلي الإجمالي هوى بوتيرة سنوية بلغت 32.9 في المائة في الربع الثاني، وهو أكبر انخفاض في الناتج منذ بدأت الحكومة حفظ السجلات في 1947. ويتجاوز ذلك الانخفاض ثلاثة أمثال التراجع الأكبر على الإطلاق السابق والبالغ 10 في المائة وكان في الربع الثاني من 1958.
على صعيد البطالة سجلت الولايات المتحدة ارقاما قياسية لم تعرفها منذ الكساد الكبير سنة 1929.
خلال الاسبوع الأخير من شهر يوليو 2020 سجل 1.43 مليون طلب جديد للحصول على مخصصات البطالة، وهو رقم تجاوز توقعات المحللين، وفق ما أظهرته أرقام نشرتها وزارة العمل يوم الخميس 30 يوليو. وبلغ معدل طلبات إعانة البطالة خلال أربعة أسابيع 17.05 مليون، بانخفاض 435500 طلب مقارنة بالأسابيع الأربعة السابقة. وتراجعت البطالة في يونيو إلى 11.1 في المائة مقابل 13.3 في المائة في مايو.
ويمثل رقم الأسبوع الماضي زيادة بواقع 12 ألف طلب مقارنة بالأسبوع السابق، كما أنه يعد ثاني زيادة أسبوعية يتم تسجيلها منذ ما يقرب من أربعة أشهر من التراجعات، في دلالة على كيفية تأثير ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا في كثير من الولايات في التعافي الاقتصادي.
ويعد هذا الأسبوع الـ19 الذي تتجاوز فيه طلبات إعانة البطالة مليون طلب، وهو رقم غير مسبوق قبل تفشي فيروس كورونا، عندما كان من النادر تسجيل طلبات إعانة بطالة أسبوعية أعلى من 100 ألف طلب. وتمثل طلبات إعانة البطالة الأسبوع الماضي تراجعا كبيرا مقارنة بأسوأ فترات تفشي فيروس كورونا، حيث تجاوزت الطلبات الأسبوعية ستة ملايين طلب في مارس الماضي، بحسب "الألمانية". إضافة إلى البطالة والتشرد، يواجه ملايين الأمريكيين انعدام الأمن الغذائي نتيجة للانكماش الاقتصادي الناجم عن جائحة الفيروس التاجي.
على صعيد مواجهة الجائحة صحيا نجحت الصين في الحد من انتشار كوفيد 19 وبلغ العدد الإجمالي للإصابات المؤكدة في بر الصين الرئيسي حتى 16 أغسطس 84849 بينما ظل عدد الوفيات عند 4634 دون تغيير، مقابل ذلك تصدرت الولايات المتحدة العالم بمقدار 5.4 مليون حالة إصابة على الأقل و 170 ألف حالة وفاة، وهو ما اعتبر فشلا مدويا لحكومة ترمب.
 علاقة تعيد رسمها الجائجة
 كتب المحلل ليون برخو يوم الجمعة 29 مايو 2020:
النقاش حامي الوطيس في أروقة السياسة والدبلوماسية في الغرب حول أين يجب أن تتجه الأبصار بعد أن تضع الجائحة أوزارها؟. وأمام الاتحاد الأوروبي خياران لا ثالث لهما: إما إبقاء الأبصار شاخصة صوب أمريكا وإما تحويل مسارها صوب الصين وآسيا.
بزوغ الصين وقدرتها على احتواء وباء كورونا وترنح الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الكبيرة أمامه، وضع دول الاتحاد في وضع لا تحسد عليه من حيث الولاء والتطلع صوب القيادة.
فبعد أن كانت أنظار أوروبا الغربية ترنو إلى أمريكا لقيادتها ومعها العالم، أخذت هذه الدول ترى أن قيادة أمريكا لها وللعالم آخذة في الأفول، ولا بد من شد الرحال صوب الصين.
وصار اليوم على الغرب أن يختار، أو في أقل تقدير أن يوازن في علاقاته بين العملاقين الصيني والأمريكي، مع يقين أن وضع العملاق الأخير أخذ في التضعضع.
وتسعى واشنطن حثيثا وبجدية إلى عدم خسارة توازن علاقات قد لا يتقنها إلا المتضلعون في تشابك الصراعات في عالم اليوم.
كانت هناك شكوك حول من سيشكل القرن الحالي. هناك من أكد أنه سيكون قرنا أمريكيا، وهناك من قال سيكون قرنا صينيا. بيد أن الجائحة التي هزت كثيرا من العروش لم تترك مجالا للبس والريبة أن قرننا الحالي سيكون آسيويا بامتياز وقيادته صينية.
أوروبا الغربية المتمثلة في دول الاتحاد الأوروبي الـ27 إضافة إلى بريطانيا التي غادرته أخيرا، قد لا تتخلى كليا عن أمريكا، لكن يبدو أنها مصممة على تدشين سياسة فيها استقلالية كبيرة انطلاقا من مصالحها في عالم صار قاب قوسين أو أدنى من تغيرات جوهرية وهيكلية في نظمه المختلفة، وأغلبها يميل صوب الصين وآسيا.
وبوادر هذه الاستقلالية بادية للعيان، حيث يغمض الاتحاد الأوروبي الطرف عن مجاراة الولايات المتحدة في كثير من سياساتها وممارساتها، من ضمنها في مواجهتها الصين.
للصين علاقات متشابكة وقوية مع بعض دول أوروبا الغربية، حيث الاستثمارات الصينية الضخمة وكذلك المساعدات التي تلقفتها بعد أن اجتاحها وباء كورونا. مظاهر الشكر والامتنان للصين كانت بادية للعيان في بعض الدول، ووصلت إلى درجة تقبيل العلم الصيني أثناء استقبال فرق طبية صينية ومساعدات صينية.
وظهر أن للصين مكانة خاصة، حيث كانت شركاتها سباقة لتلبية الطلب المتزايد على المعدات الطبية لمكافحة الجائحة. وكان منظر الدول الغربية في صراعها للحصول على العقود التجارية في هذا المضمار مثيرا للشفقة، ووصل إلى حد اتهام الواحد للآخر بسرقة المواد التجارية الصينية المشحونة إلى بعض الدول. الدعاية الامريكية عن عدم صلاحية المعدات الصينية قوبلت في الغالب بسخرية.
بطبيعة الحال، ليس بمقدور أي محلل أن يعطي سقفا زمنيا يحدد فيه واقع العلاقة المستقبلية بين الدول الغربية من جهة وأمريكا والصين من جهة أخرى، لكن إن كان حجم التجارة مؤشرا إلى طبيعة العلاقة ومن يتكئ على من في عالم الاقتصاد، وهو أهم عامل في عالم اليوم، فإن الأرقام تكاد تنطق.
تستورد دول الاتحاد الأوروبي كل يوم ما قيمته أكثر من مليار دولار من البضائع من الصين.
واعتماد الغرب على الصين يكاد يكون شاملا في حلقات محددة مثل أمن الاتصالات وبعض الحلقات الطبية والأدوية، ويستورد الغرب كل حاجياته هذه من الصين.
وصار جليا بعد الجائحة أن في مقدور الصين، لما تملكه من إمكانات مادية، شراء حلقات تكنولوجية غربية فائقة التطور وبأسعار متدنية جدا، ما حدا بأحد المحللين إلى القول بعد احتواء الوباء في الصين وترنح بعض الدول الغربية، إن الصينيين بإمكانهم شراء كل مصانع الاتحاد الأوروبي.
وخشية من المد الصيني في الدول الغربية، اتخذ بعض الحكومات قرارات تجعل من المستحيل بيع شركات صناعية وتكنولوجية محددة، ولا سيما في قطاع الأدوية والأجهزة الطبية، وغيرها.
والصين عموما، تلعب بذكاء في ساحة دول الاتحاد الأوروبي. فعكس روسيا والولايات المتحدة، فإنها لم تؤيد انسحاب بريطانيا من الاتحاد، وسارعت إلى مساندة الاتحاد للتخفيف من وقع الأزمة المالية عام 2008.
وتعرف الصين أن الاتحاد الأوروبي، رغم ما يجمعه كوحدة اقتصادية وسياسية، إلا أن فيه كثيرا مما يفرق أعضاءه عند الاختيار بين عملاق شمال أمريكا وعملاق آسيا.
بعض الدول الأوروبية استقدمت تقنية الاتصالات الصينية من الجيل الخامس الأكثر تطورا في العالم، وبعضها الآخر قبل مشاركة الصين واستثماراتها على أراضيه في البنى التحتية على خط ما يعرف بطريق الحرير، لربط الصين بالقارة الأوروبية.
إن كانت أمريكا ظاهرة للعيان من خلال قوتها الناعمة وسلسلة وجباتها السريعة، فإن الصين اليوم متوافرة في البنى التحتية وعلى الرفوف في أسواق ومتاجر هذه الدول.
 بريق الرأسمالية الغربية
 كتب ليون برخوا قبل مدة طويلة عن مستقبل الرأسمالية:  
الذي يقرأ ويتابع ما يكتبه الاقتصاديون الغربيون البارزون والمقالات والافتتاحيات في أمهات الصحف الغربية قد يتصور أنه يعيش في موسكو أيام كانت الشيوعية والاشتراكية في عزها.
لا يمضي يوم إلا وهناك مقالات وعروض لكتب وأبحاث جامعية رصينة تنهال على النظام الرأسمالي الغربي الحالي وتنعته بأبشع الصفات وتعزو إليه ما يمر به الغرب من أزمات وتتكهن وتتنبأ بما هو أسوأ بكثير في الآتي من الأيام.
ويذهب بعضها بعيدا في القول إن الدول الغربية مقبلة على كوارث اجتماعية وانتفاضات من قبل الطبقات المسحوقة إن لم يتم استبدال النظام الرأسمالي الحالي وبعضها يتنبأ بحروب كارثية قد تقع ليس في الأجل البعيد للتهرب من الأزمات الداخلية.
ربما كان الكثير من الناس يتصور أن الوصف هذا فيه مبالغة كبيرة أو أن الهجوم على النظام الرأسمالي دائما يأتي من أطياف يسارية أو ليبرالية أو اشتراكية المنحى والتوجه السياسي، بيد أن دخول علماء اقتصاد المعترك هذا بأبحاث ودراسات جامعية رصينة تظهر فيه أن الرأسمالية صارت آفة ونقمة على المجتمعات الغربية أكثر منها نعمة، وضع أصحاب الشأن فيها أمام المحك.
وأبرز عالم اقتصاد أدلى بدلوه في هذا المضمار هو الفرنسي توماس بيكتي في كتابه الجديد "رأس المال في القرن الواحد والعشرين". والكتاب يقع في أكثر من 700 صفحة، ولكنه مكتوب بلغة سلسلة يجعل من عملية استيعاب المفاهيم التي يأتي بها هذا العالم الكبير ممكنة حتى من قبل أناس عاديين وآخرين ليس الاقتصاد اختصاصهم.
والكتاب تُرجم إلى الإنجليزية فور صدوره وإلى لغات أخرى. ودنيا الاقتصاد والمال وحتى السياسة مشغولة بالمحصلة التي يأتي بها وهي أن النظام الرأسمالي بشكله الحالي صار يمثل خطرا كبيرا على المجتمعات والدول الغربية التي ما زالت تتشبث به رغم مساوئه.
والكتاب حسب العروض التي قرأتها حتى الآن أن في الصحافة أو الدوريات الأكاديمية قد فاق بشهرته وتأثيره في الأروقة العلمية كتاب آدم سميث: "ثروة الأمم" وكتاب كارل ماركس: "رأس المال".
والكتاب نتاج سنين طويلة من البحث المضني في أروقة المكتبات الجامعية والأرشيف الحكومي لدول مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا وغيرها ويستند إلى عينة تمتد لنحو 200 سنة إضافة إلى قصص وأحاديث واستشهادات واقتباسات ومقابلات - كل هذا كي يدعم العالم الكبير استنتاجاته بالأدلة المدعومة علميا وأكاديميا وكل هذا بلغة بسيطة سهلة التقبل والاستيعاب.
ينتهي بيكتي إلى خلاصة تضرب النظام الرأسمالي في الصميم، حيث يبرهن أن الهوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء في ازدياد في هذه الدول. ليس هذا فقط بل إن الأغنياء اليوم يكدسون ثرواتهم وملايينهم وملياراتهم من خلال عمليات أساسها التهرب من الضريبة من خلال عمليات تبدو قانونية، ولكنها مضرة للاقتصاد ومن خلال استثمارات أغلبها ريعية وفي مجالات غير خدمية وصناعية وزراعية غايتها تكديس الثروات وليس المساهمة الفاعلة في الاقتصاد والأعمال الريادية.
والنتيجة المذهلة التي يتوصل إليها هي أن ضريبة الدخل ليست معيارا للمساهمة الاقتصادية الفاعلة حيث يقول إن 1 في المائة من الأغنياء في البلدان الرأسمالية مثل بريطانيا يساهمون في 25 في المائة من الدخل الضريبي للدولة، وهذا يبدو ظاهريا كبيرا إلا أن 45 في المائة من الدخل الضريبي يأتي من القيمة المضافة والرسوم والتأمين وغيرها من الضرائب التي يتحملها الناس سواسية إن كانوا أغنياء أو فقراء. وهذا يعني، كما يقول بيكتي، إن المواطنين متساوون تقريبا في الدفع الضريبي وإن عامة الشعب هي التي تدفع مصاريف الخدمات العامة من تربية وصحة وسكن وغيره وكلما زادت أجور هذه الخدمات زاد عبء الضريبة على عامة الناس، بينما تخفض الضريبة على الأغنياء بحجة أنهم يسهمون في الاقتصاد وهو ليس كذلك. وسنعود إلى كتاب توماس بيكتي في رسالتنا القادمة.
 أساليب الصراع في القرن 21
 ذكر موقع "ساسة بوست" يوم 4 أغسطس 2020 أن صحيفة "نيويورك تايمز" نشرت مقالا للكاتب سبنسر بوكات لينديل، حول العلاقات الأمريكية الصينية التي تشهد توترا لم تشهد له مثيلا منذ عقود، والشكل الذي ستبدو عليه الحرب الباردة بين البلدين إذا ما استمر هذا التناطح.
ألقى وزير الخارجية مايك بومبيو خطابا منذ أسابيع شبهه كثيرون بأنه إعلان حرب باردة ضد الصين. قال: لقد ذهب "النموذج القديم للمشاركة العمياء" الذي ساد منذ إدارة نيكسون. وتابع: "إذا أردنا أن يكون القرن الحادي والعشرون حرا، فيجب أن ينتصر العالم الحر على هذا الطغيان الجديد".
يقول الكاتب: أوضح خطاب بومبيو أن العلاقة بين القوتين العظميين وصلت إلى أدنى مستوى لها في الأشهر الأخيرة، وتوترت بسبب جولات متصاعدة من العقوبات الدبلوماسية والردود الانتقامية في نزاعات تتعلق بالأراضي، والملكية الفكرية، والتجارة، وفيروس كورونا المستجد، ومزاعم التجسس والقمع في هونك كونغ، من بين نزاعات أخرى.
ويرى إدوارد وونغ، وستيفن لي مايرز، محررا صحيفة "نيويورك تايمز" في بكين، أن التأثير المشترك لهذه المناوشات العدائية، قد يثبت أنه أهم إرث خلفته السياسة الخارجية لإدارة ترمب، وهو: "ترسيخ مواجهة استراتيجية وأيديولوجية أساسية بين أكبر اقتصادين في العالم".
ويتساءل الكاتب: لكن كيف ستبدو حقا مثل هذه المواجهة؟ إليك ما يقال عما قد يحدث إذا استمرت العلاقات بين الدول في التوتر.
يدفع الكاتبان ريتشارد فونتين، وإلي راتنر من صحيفة "واشنطن بوست" بأن النظر إلى الوراء بمنظور الحرب الباردة يحجب أكثر مما يضيء الأمور المتعلقة بالعلاقات الأمريكية الصينية. إذ كانت الحرب الباردة الأصلية تعرف بأنها المعارضة القائمة بين حلف الناتو وأعضاء حلف وارسو، وأشار الكاتبان إلى أن نشاطا اقتصاديا ضئيلا جرى بين الكتلتين، وكانت دول عدم الانحياز في المناطق الاستراتيجية قليلة نسبيا ومتباعدة فيما بينها.
لكن هذا الوضع ليس قائما الآن، إذ تتمتع الدول في جميع أنحاء العالم بعلاقات أمنية واقتصادية قوية مع كل من الولايات المتحدة والصين، وكما اعترف بومبيو نفسه في خطابه، فإن "الصين مندمجة في عمق الاقتصاد العالمي".
إن الولايات المتحدة والصين هما أيضا أكثر تشابكا في علاقاتهما عما كانت عليه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تماما، وفي هذا الصدد، كتب ماريو ديل بيرو، أستاذ التاريخ الدولي في معهد الدراسات السياسية في باريس المعروف باسم "ساينسيز بو"، في صحيفة "الغارديان" أن التفاعل بين البلدين كان منتجا ومحركا للعولمة، فالولايات المتحدة تعتمد على الصين في استضافة منشآتها الصناعية وشراء ديونها، وتعتمد الصين على الولايات المتحدة في استيعاب صادراتها وتعليم مئات الآلاف من طلاب الجامعات.
وأضاف ديل بيرو: "تحدد مثل هذه الاعتمادات المتبادلة الآن العلاقات الأمريكية الصينية، وتكشف إلى أي مدى تعد هذه الروابط "الاعتمادات" دقيقة وحاسمة"، ونتيجة لذلك، فإن أي صراع بين الصين والولايات المتحدة سيجري ويحسم على الأرجح على نحو مختلف، وكما يشير ديل بيرو، فإن التهديد بالدمار المتبادل المؤكد الذي حرك الحرب الباردة لا يلوح في الأفق بالقدر نفسه في الصراع الحالي.
ولكن في الوقت نفسه، يدفع رئيس الوزراء السنغافوري، لي هسين لونغ، بأن الصين، في الشئون الخارجية، تعد منافسا أكثر تعقيدا مما كان عليه الاتحاد السوفيتي: "فالاقتصاد الصيني يتمتع بديناميكية هائلة وتكنولوجيا متقدمة بصورة متزايدة، والصين أبعد بكثير من أن تعد أشبه بكيان أجوف وزائف كأسطورة قرية بوتيمكين الزائفة، أو اقتصاد قيادة مترنح كالذي اتصف به الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة، ولذلك من غير المرجح أن تنتهي أي مواجهة بين هاتين القوتين العظميين كما انتهت الحرب الباردة، التي انتهت بانهيار سلمي لأحد البلدين الاتحاد السوفيتي".
 الصين افللت من الركود
 جاء في تقرير نشرته الاقتصادية يوم الثلاثاء 18 أغسطس 2020 تحت عنوان: الاقتصاد العالمي في ركود غير مسبوق جراء كوفيد - 19 .. والصين بمنأى رغم تراجع النمو. 
مع إعلان اليابان تسجيل تراجع غير مسبوق لإجمالي ناتجها الداخلي خلال الفصل الثاني من العام، فإن هذا الانكماش يضاف إلى الركود الكبير الذي سجلته كبرى الاقتصادات العالمية بين أبريل ويونيو، بسبب وباء كوفيد - 19، فيما لا تزال الصين الدولة الوحيدة بمنأى عن الركود.
وبحسب "الفرنسية"، تراجع إجمالي الناتج الداخلي للولايات المتحدة، أكبر اقتصاد عالمي، بنسبة 9.5 في المائة في الفصل الثاني، بعد تراجع بنسبة 1.3 في المائة في الفصل الأول، وفق الأرقام التي نشرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي.
تنشر السلطات الأمريكية إحصاءات تستند إلى تغيرات بوتيرة سنوية، بلغت في الفصل الثاني -32.9 في المائة، وهي أرقام لا يمكن مقارنتها بتلك التي تصدرها الدول الأخرى.
بينما تجنبت الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي، الدخول في ركود عبر تمكنها من احتواء الوباء، ما أتاح لها الدخول في طريق النمو من جديد. وارتفع إجمالي ناتجها الداخلي بنسبة 11.5 في المائة في الفصل الثاني، بعد تراجعه بنسبة 10 في المائة في الفصل الأول.
ومقارنة بعام 2019، يبلغ تراجع النمو في الفصل الأول 6.8 في المائة، مقابل ارتفاع بنسبة 3.2 في المائة في الفصل الثاني.
ويبقى معدل النمو متدنيا جدا مقارنة بما حققته الصين في العقود الماضية.
في حين تراجع إجمالي الناتج الداخلي لمنطقة اليورو بنسبة 12.1 في المائة في الربيع مقابل 3.6 في المائة في الفصل السابق، وهو "إلى حد بعيد" التراجع الأكبر "منذ بدء تسجيل السلاسل الزمنية عام 1995" من جانب المكتب الأوروبي للإحصاءات يوروستات.
ومن المؤشرات على صعوبة تحسين الاوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة الوعود غير الواقعية التي يقدمها حاكم البيت الأبيض. فيوم الاثنين 17 أغسطس تعهد الرئيس ترمب بخلق عشرة ملايين وظيفة في عشرة أشهر، من خلال إجراءات من بينها إيجاد إعفاءات ضريبية للشركات الأمريكية التي تعيد منشآت للتصنيع من الصين إلى الولايات المتحدة. 
وأبلغ ترامب الصحفيين أثناء زيارة إلى ولاية مينيسوتا أن إدارته ستنزع أيضا العقود الاتحادية من الشركات التي تعتمد على التوريد الخارجي من الصين.
خبراء اقتصاديون علقوا على وعود ترمب بأنها تعني خلق ما معدله مليون وظيفة جديدة كل شهر وهذا أمر شبه مستحيل. 
موازاة مع ذلك تتربص المشاكل بالدولار الأمريكي. فيوم الاثنين 17 أغسطس جاء في تقرير نشرته وكالة نوفوستي اليوم: 
تتجه موسكو وبكين نحو التخلي عن العملة الأمريكية، ووصلت حصة الدولار في العمليات التجارية بين روسيا والصين إلى الحد الأدنى.
وفي ظل ذلك أعرب اقتصاديون عن ثقتهم في أن هذا التعاون سينتهي في النهاية بـ"تحالف مالي"، والذي لن يكون فيه مكان للعملة الأمريكية.
وأظهرت بيانات اقتصادية أن حصة الدولار في الحسابات التجارية بين البلدين في الربع الأولى من عام 2020 هبطت إلى دون مستوى 50 في المائة إلى 46 في المائة، وذلك للمرة الأولى للإطلاق.
فيما بلغت حصة اليوان والروبل خلال الفترة المذكورة 24 في المأئة، بينما كانت حصة اليورو 30 في المأئة.
ويعد هذا التحول جزءا من استراتيجية روسية تهدف "لتقليص" اعتماد الاقتصاد الروسي على الدولار، وجعله أكثر مرونة في مواجهة التهديد بفرض عقوبات أمريكية جديدة.
وكانت موسكو وبكين قد وقعتا في سنة 2014 اتفاقية مقايضة عملات لمدة ثلاث سنوات بقيمة 150 مليار يوان حوالي 24.5 مليار دولار.
ويقول خبراء إن مساعي روسيا والصين للتخلي عن الدولار هو أحد الأسباب الرئيسية في انخفاض الطلب على الدولار.
كما أن صندوق النقد الدولي قد حذر، في تقرير في أغسطس 2019، من أن طبع تريليونات الدولارات لمحاربة الأزمة وأسعار الفائدة المنخفضة للغاية تقوض مكانة الدولار كعملة احتياط.
كما أن الدين الأمريكي، الذي بلغ 26 تريليون دولار، يعد حملا ثقيلا على الاقتصاد الأمريكي، ووفقا لبنك UBS السويسري، فإن هذا سيضر بالدولار في النهاية.
 تكاليف الصراع مكلفة للغاية
 كتب ناثانيل تابلين في صحيفة "وول ستريت جورنال" أنه بسبب تشابك "تداخل" الاقتصادين الصيني والأمريكي، فإن فصلهما سيكون أمرا مكلفا للغاية. نعم، يستخدم الأمريكيون أجهزة "آيفون" ومعدات الحماية الشخصية المنتجة في الصين، لكنهم ينتظمون أيضا في جامعات استمدت استمرارها وبقاءها على قيد الحياة، بعد عقود من ضعف الاستثمار، من الطلاب الصينيين الذين يدفعون رسوم تعليمهم كاملة.
وأضاف تابلين: "فإذا مضت عملية فصل الاقتصادين قدما، فستكون هناك ضرورة ملحة لتوفير مزيد من التمويل الاتحادي "الفيدرالي" للأبحاث الأساسية ولتعليم العلوم والرياضيات في الولايات المتحدة لسد الفجوة الناشئة".
وتابع تابلين: "وربما يعني ذلك فرض ضرائب أعلى، وتبني سياسة هجرة أكثر ترحيبا بالمواهب الأجنبية من الهند والدول الأخرى، لتعويض هجرة العقول الصينية المحتملة. وأخيرا، يجب على المستهلكين الأمريكيين الاستعداد لدفع المزيد من الأموال مقابل التمتع برفاهية سلسلة التوريد الآمنة والمتنوعة للسلع والمنتجات".
وفي هذا السياق، كتب مايكل تي كلير، أستاذ فخري في دراسات السلام والأمن العالمي بكلية هامبشاير، في مجلة "ذا نيشن" الأمريكية، أن عملية تنويع سلاسل التوريد الأمريكية ستكون طويلة وصعبة. وفي حين يمكن نقل الوظائف التي يقوم بها العمال حاليا في الصين إلى مراكز تصنيع أخرى منخفضة التكلفة، مثل المكسيك، أو تايلاند، أو فيتنام، يتوقع كلير أن يستغرق هذا التحول سنوات عديدة لتحقيقه. وعلى المدى القصير، كما يقول: "يمكن أن تكون النتيجة الأولى لحرب باردة مكثفة متمثلة في تعافي أضعف من المتوقع من الانهيار الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا المستجد".
يضيف كلير، أنه ليس من الصعب تصور تحول نزاع اقتصادي إلى صراع عسكري. وكما هو الحال، فإن السفن الحربية الأمريكية والصينية تواجه بعضها بعضا بوتيرة منتظمة في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وأحيانا على بعد مسافات شديدة الخطورة.
ويقول: "مع تعدد مثل هذه الحوادث وتزايد التوترات، فإن خطر حدوث مواجهة خطيرة تنطوي على خسائر في الأرواح على أحد الجانبين أو كليهما، لا بد أن يزداد، ومن الممكن أن يوفر شرارة لاندلاع مواجهة عسكرية واسعة النطاق".
وكتب بريت ستيفنس، كاتب العمود في صحيفة "نيويورك تايمز"، أنه لن يتضح على الفور أي بلد سيفوز بمثل هذه المواجهة، ويقول إن البحرية الأمريكية غارقة في حالة من التدهور، وقد أضعفها الفساد وعدم الكفاءة، بينما نمت البحرية الصينية بنسبة 55 في المائة خلال 15 عاما.
ويتساءل ستيفنس: "إذا قدر للولايات المتحدة أن تشتبك مع جمهورية الصين الشعبية بعد حادثة ما على بعض الجزر المرجانية في بحر الصين الجنوبي، فهل نحن واثقون من أننا سننتصر؟" هذا سؤال يتعين على إدارة بايدن أن تتعامل معه أيضا، فالتوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي لم يبدأ عندما تولى ترمب منصبه ولن ينتهي عندما يغادر.
 معركة السيطرة على التكنولوجيا
 جاء في تقرير نشرته "الاقتصادية" صدر في لندن يوم 16 أغسطس 2020:
 كان من المفترض أن يشهد يوما السبت والاحد 15 و 16 أغسطس 2020 جولة جديدة من المباحثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث لم يكن هناك كثير من التوقعات بأن تسفر عن اختراقات حقيقية لحل القضايا التجارية العالقة بين قطبي الاقتصاد الدولي.
ولكن الجولة كانت من الأهمية بمكان، حيث إن الآمال عقدت عليها لتحريك المياه الراكدة بين الطرفين، ومراجعة اتفاق المرحلة الأولى، وتقييم ما تم تنفيذه من قبل كل طرف بشأن الالتزامات السابقة، ولكن فجأة ودون سابق إنذار وقبل ساعات من موعد المباحثات تم تأجيلها لأجل غير مسمى، ليكشف ذلك عن مزيد من التدهور في العلاقات التجارية الثنائية، وعن آفاق ملبدة بالغيوم تتعلق بالتأثيرات السلبية لهذا التدهور في الأوضاع الاقتصادية على المستوى العالمي، خاصة أن الاقتصاد الدولي يعاني بشدة تراجعا ملحوظا نتيجة جائحة كورونا.
وقبل بدء المحادثات شن الجانب الأمريكي هجوما عنيفا على الصين متهما إياها بعدم تنفيذ ما التزمت به في اتفاق المرحلة الأولى، الذي كان مقصودا أن يكون اتفاقا صغيرا نسبيا تتبعه مرحلة ثانية.
الاتفاق بدأ سريانه بدءا من شهر فبراير الماضي، حيث تعهدت الصين بشراء سلع وخدمات أمريكية بقيمة 63.9 مليار دولار أمريكي في 2020، وأن تلتزم بالقيام عام 2021 بشراء سلع وخدمات أمريكية على مدى عامين بقيمة 200 مليار دولار.
إلا أن بكين، وفقا للتصريحات الأمريكية لم تف بالتزاماتها، ولا تزال متخلفة عن الوتيرة المطلوبة لتلبية الزيادة المنشودة في مشترياتها للعام الجاري، كما أنها تستورد سلعا زراعية أقل بكثير من مستويات 2017. الجانب الصيني أرجع ذلك جزئيا إلى التباطؤ الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا.
لكن هذا الخلاف التجاري يعد على الرغم من أهميته جزءا بسيطا من مشهد يتعلق في جوهره بقيادة العالم مستقبلا، وما تزايد تعقيدات الصراع وحدته في الأشهر الستة الأخيرة إلا دليلا على البعد المستقبلي للصراع، الذي أخذ منحنيات أدخلت قضايا جديدة إلى صلب النزاع القائم.
ويعتقد الباحث الاقتصادي في الشؤون الآسيوية وليامز بيست أن تأجيل جولة المباحثات الأمريكية الصينية يعني أن درجة حرارة الصراع بينهما تواصل ارتفاعها، وأن صانعي السياسة الاقتصادية في الصين بات لديهم مبررات لعدم التزامهم بصفقة تجارية مع واشنطن، إذ إنه لا يوجد لديهم ضمانات بأن مثل تلك الصفقة ستفعل شيئا يذكر لحماية الشركات الصينية في مجال التكنولوجيا من الضغوط الأمريكية.
ويقول: من المؤكد أن حكومة الولايات المتحدة ستتخذ مزيدا من الإجراءات لمنع تخزين البيانات الأمريكية على الأنظمة المستندة إلى السحابة المملوكة للشركات الصينية، وكذلك التأثير في استخدام الكابلات البحرية، التي تربط الولايات المتحدة بشبكة الإنترنت العالمية.
يمكن القول إن حرب ترمب الاقتصادية ضد الصين، التي شنها في مارس 2018 لها جبهتان، الأولى جبهة تجارية تنحصر في خفض العجز التجاري الأمريكي مع الصين، وفي هذه الجبهة، فإن اتفاق المرحلة الأولى لم يكن أكثر من اتفاق لوقف إطلاق النار، وليس لإنهاء الحرب، بينما الجبهة الثانية، التي تصاعد فيها القصف في الآونة الأخيرة هي معركة السيطرة على التكنولوجيا عالية التطور، ولا سيما قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتلك الجبهة يستبعد أن يتم وقف إطلاق النار فيها في القريب العاجل، إذ إنها الحاسمة في الحرب التجارية بين الجانبين.
بالطبع، جبهتا القتال معقدتان بسبب التداخل الاقتصادي الدولي، عبر سلاسل التوريد العالمية، والاستثمارات المتبدلة، وما ينجم عنها من تشابك المصالح الأمريكية الصينية. مع هذا تظل الجبهة الأولى جبهة الحرب التجارية جبهة تقليدية تم خوض عديد من الصراعات فيها وبين دول مختلفة، أما الحرب التكنولوجية فإنها جديدة بعض الشيء، ومخاطرها أكبر بكثير.
ويقول الدكتور ريتشارد دي بوريس أستاذ التجارة الدولية في جامعة ويلز، "الحرب التجارية تتعلق بالتبادل ثنائي الاتجاه للسلع والخدمات، وفي الحالة الأمريكية الصينية تقل قيمة التبادل التجاري عن تريليون دولار سنويا، وفقا لأرقام عام 2019، على النقيض من ذلك تؤثر الحرب التكنولوجية بشكل مباشر في استمرارية الخدمات المالية العالمية، التي تشمل أغنى الاقتصادات الدولية، وبالتالي على باقي العالم. فالقيمة الإجمالية للتبادل، التي تعتمد على البيئة العالمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الموحدة والمستقرة نحو تسعة أضعاف القيمة السنوية للتجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين، حيث تبلغ تسعة تريليونات دولار".
أغلب التكهنات تشير إلى أن الهجوم الأمريكي على شركات التكنولوجيا الصينية سيزداد شراسة حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولن ينجو من الهجوم حتى الشركات الصينية ذات الطابع المحلي، إذ يتوقع أن تستهدف الإدارة الأمريكية مجموعة على بابا للتجارة الإلكترونية، التي تعد النموذج الصيني الموازي لشركة أمازون.
وعلى الرغم من أن الشركة الصينية لم تحقق نجاحا في التوسع في الأسواق الغربية، لكن حقيقة أنها شركة وطنية رائدة في مجال التكنولوجيا في الصين قد يكون سببا كافيا لواشنطن لاستهدافها.
لكن عددا من الخبراء يعتقدون أن الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين سيخرج منه الجميع خاسرا وستمتد أضراره لتطول الاقتصاد الدولي.
من جهتها، تقول إيملي هيلر الاستشارية في شركة نيو تكنولوجيا للاستشارات التكنولوجية، "من الصعب تحديد المنتصر في صراع غير مسبوق بطبيعته، ومع ذلك إذا أخذنا الحملة الأمريكية لإخراج شركة هواوي خارج شبكة 5G العالمية كمقياس للنصر، فإنه يمكن القول إن الحملة ستفشل، وثانيا وفي الأغلب سيخسر الجميع إذا تم استبعاد "هواوي"، لكن الخاسر الأكبر سيكون الاقتصاد العالمي، إذ سيتم تقويض جزء ملموس من التجارة الدولية، وسيتم إضعاف إجراءات تسوية المنازعات في منظمة التجارة الدولية، وسيكون هناك شكوك مستقبلية بشأن جدوى التعاون الاقتصادي وضمانات نجاحه".
ويرى البعض أن إمكانية خروج الولايات المتحدة من تلك المعركة التكنولوجية فائزة أمر عسير المنال، فطالما كانت الولايات المتحدة أكبر وأهم سوق إنترنت في العالم.
لكن عدد سكان الصين الأكبر سمح لها بتجاوز الولايات المتحدة، وبات الآن لديها أربعة أضعاف عدد مستخدمي الهواتف المحمولة في الولايات المتحدة، ما يوفر فرصا للشركات المحلية في كل شيء من التجارة الإلكترونية إلى المدفوعات الرقمية، لكن تمتع الصين بميزة في أعداد المستخدمين، يقابله أن المستهلكين الأمريكيين لديهم قوة إنفاق أكبر بكثير من نظرائهم الصينيين، ما يولد نحو سبعة أضعاف الناتج الاقتصادي للفرد، مقارنة بالمواطن الصيني، ويمنح ذلك شركات التكنولوجيا الأمريكية بيئة غنية بالأهداف لتوليد الإيرادات، سواء لزيادة الأرباح ومن ثم جذب مزيد من المستثمرين أو استخدام الأرباح لتطوير منتجات أكثر ربحية.
لكن الخبيرة الاستثمارية فينيسا نايت تؤكد أن الولايات المتحدة ابتكرت أعمال رأس المال الاستثماري واستخدمت نموذج رأس المال الخاص لإنشاء عديد من أقوى شركات التكنولوجيا في العالم، في المقابل أغلقت الصين إلى حد ما الفجوة المالية، وقد أدى ذلك إلى زيادة عدد الشركات الناشئة، التي تبلغ قيمة رأس مال الواحدة مليار دولار.
إلا أن القفزات، التي تحققها الصين في صراعها التكنولوجي مع الولايات المتحدة، والجهود الأمريكية لتطويقها والحد من قدراتها في هذا المجال، لا تقف عند حد صراع ثنائي المواجهة، إذ تعمل الولايات المتحدة على الاستفادة من التحالفات مع الدول الأخرى، وإعادة توجيه سياستها التكنولوجية لتكون أكثر تنسيقا وتعاونا مع الحلفاء المقربين.
من جهته، يعلق أندروا مار الباحث في مجال التكنولوجيا الحيوية، قائلا "الصين لا تواجه الولايات المتحدة فحسب، وإنما تواجه تحالفا تكنولوجيا دوليا تقوده الولايات المتحدة. أمريكا وحلفاؤها يشكلون نحو ثلثي أنشطة البحث والتطوير العالمية، وهناك طرق متعددة يمكنها من خلالها الاستفادة من مجموعة البحث والتطوير تلك، والتنسيق المشترك بشأن الأولويات، ما يمنحها أفضلية في الصراع مع الصين".
ويضيف "لكن على مجتمع الأعمال في الولايات المتحدة الخلاص من التفكير قصير المدى، والذي ينحصر في الأرباح الفصلية وزيادة أسعار الأسهم، فالصين تتبنى استراتيجية طويلة الأمد، في مجالي التكنولوجيا والابتكار، ومن ثم سيكون التفكير قصير الأمد نهجا غير صحيح إذا كانت الولايات المتحدة والحلفاء على استعداد لخوض ماراثون القوة العظمى مع الصين".
 
عمر نجيب
[email protected]