مواكب السنديان وشهوة التشظّي ونهاية الشعر (1) بدّى ولد أبنو

سبت, 2017-06-10 04:59

الأحد آخر أيام أغسطس الماضي. القطار يتجه إلى “افرانكفورت” حيث أشارك في جامعتها، جامعة “جوتيه”، في مؤتمر يستمر طيلة الأسبوع. أبتعدَ شيئا فشيئا رنينُ قرع الأجراس في “بروكسيل”. تركنا عاصمة أوربا، كما تدلّل نفسَها أمام زوّارها، أو مدينة “المَنَكَنْ بِيس″ كما تُحبّ أن تُصف استفزازا نفسَها، تتأمّل الساعات الأخيرة لشهر القلب الطاهر (أغسطس) للسيدة العذراء (في التقليد الكاثوليكي). الطقس هادئ والقطار الألماني “دويتش بان” مريح. الساعات الثلاث التي تفصل “بروكسيل” عن “فرانكفورت” تسمح بالكاد بقراءة عدة صفحات وبتأمل هذه الغابات المتمنّعة والمدهشة.

كنتُ تبادلتُ الرسائل مع الفيلسوف ومؤرخ الاسلاميات “جوزيف فان إيس″ الذي يشارك أيضا في المؤتمر حول متعلقات علينا ترتيبها قبل بدء الأخير. هو قادم من “شتوتغرت” و قبلها من منافستها “توبنغن”. لاحقا ونحن نتحدث في بهو الجامعة قال لي : “هذه أول زيارة لي لـفرانكفورت منذ نصف قرن. كل شيء تغيّر”. قلتُ له : “إذًا أهلا بك عندنا”. وضحك.

لم يكن القطار مزدحما فاخترتُ ركنا يمنح إطلالة رحبة. في بعض الأحيان يطفو لحن ما حزين من الصحراء في أذني فأتأمل الطبيعة الخضراء بإحساس مضاعف. يزداد زخمه مع تلاحق مواكب شجر السنديان والحور والصنوبر والزان والأرْز والكستناء التي تتناوب على جانبي السكّة.

ورغم أني عرفتُ هذا الخط القطاري بالذات عشراتِ المرات إلا أنّ هذه الغزارة الألَقِية التي تختصّ بها الطبيعة هنا، بسَرَفها الاحتفائي، ببذخها الجمالي المفرط، تبدو لي في كل مرة اكتشافا جديدا مترعا بالفرادة، بهاءً لا ينتمي إلى الأرض. لـ “الفنسات العالية” نَسبٌ ما بالصحراء الوفية لذاتها : نقية الهواء إلى حدّ كبير، عصية المناخ، مؤثرة ومثيرة،متمردة، أنيقة ومتوحشة في آن.

تمرّستُ بهذه المنطقة منذ أكثر من عشرين سنة. أدين للصديق “مارك آنري دأون” بهيامي بهذه الغابات المتباهية. عانقتها أول مرة سنة 1992. كان أيضا يوم أَحد وكنا نستقل سيارة صغيرة عتيقة لها ما للفينيق من شهوة الحياة. في ذلك اليوم ازداد القاموس الثري لجُمل “مارك” بواحدة. قال وهو يتأمل بخشوعه الاعتيادي هذا البهاء يحايث من حيث يُفارق : “كم الطبيعة كريمة وكم البشر بخلاء !”… ثم بعدها بدقائق التفتَ إليَ مازحا وقد خرج فجأة من شروده “الصوفي” : “ولكن رغم كرمها الشديد كم الطبيعة بخيلة حين منحتْ الذكاء للبشر”. للطبيعة بداهةً أن تطلب منا أن نتأمّل أكثرَ همجية البشر لندركَ أن ما نسميه ذكاء ليس سوى مرحلة متقدّمة من الغباء.

أشار من بعيد نهرُ “الميوز″ ومعَه “المدينة المتوهجة” ـ كما تُكنّى ـ تعطف عليه بجناحيها. مدينة “لييج” البلجيكية تتباهى بألوانها وتئن تحتَ فوضى أسمائها. أخذَ القطار مكانَه في المحطة واللغات تتصارع خلال نوع من الوقت الضائع لما بعد معركة “واتيرلو”. فوضى الأسماء واللغات تُذكّر ـ ككلّ شيء في بلجيكا ـ بتراجيديا شهوة التشظيّ لدى البشر. أوربا الغربية، اللتي قد أضحتْ نخبُها موحدّة نسبيا لغويا (اللاتينية) خصوصا بعد انتشار الكاثوليكية فيها خلال ما تسميه هي بالعصر الوسيط، أصابتْها فجأة منذ أواخر ذلك العصر نزوةُ التفكّك اللغوي قبل أن تصيب عبرها العالم يأسره. تمّ قتْلُ اللاتينية كآخر مطافات دفْن “روما” وخلقْ دول وطنية (كما تُترجم في دول المغرب، أو دول أمم أو دوّل قومية، كما تُترجم في المشرق).

الوالونيون يسمون مدينتهم “ليــجش”. أما العالم فيعرفها عبر اسمها الفرنسي: “لييج”. الفلامنديون والهولنديون ينطقونها “لَــكْ”، والألمان “لٌتيخ”. الغريب أن الأنجليز الذين غالبا ما يطحنون الكلمات الفرنسية ويُصفّون معها حساباتهم أكثر حين تكون أسماء مدن فإنهم هنا فضلوا الاحتفاظ بالتسمية الفرنسية كما هي دون أن يتمكّنوا فعليا من نطقها. نوعٌ من رحمة المنتصر. يقطن في “لييج” والمنطقة الوالونية منهم الكثير، لاسيما مدينة “واتيرلو” القريبة التي عرفتْ منذ قرنين خلال معركتها الشهيرة انتصارهم (هم وحلفاؤهم البروسيون والهولنديون إلخ)) على المشروع الامبراطوري لـنابليون. قوَّضوه كليا. سبع عشرة سنة من إعادة الانتشار فصَلتْ أسوار “عكا” عن دروب “واتيرلو”. وفي كلتي الحالتين اصطدمتْ أحلام “نابليون” بالإنجليز حتى تلاشتْ. هنا كانت قد تربعتْ عائلاتٌ منهم على أغلب المؤسسات في أوج الثورة الصناعية في “والونيا” غداة تلك المعركة بالذات.

تجاوزنا نهر “الميوز″ فتراجعتْ الفرنسية وقبْلها الهولندية الفلامنكية وأصبحتْ لغةٌ القطار الأولى هي الألمانية. هذه اللغة المهيبة كنتُ وما زلتُ أشعر بميل خاص إليها. والحقّ أنه نادرٌ أن يوجد من له شعور محايد تجاه لغة “جوتيه” . الفلاسفة تجمعهم مفرداتها بـ”كانت” و”فيخت” و”شيلينغ” و”هيغل” و”شوبنهاور” والقائمة تطول. الموسيقيون تبدو لهم نغماتها نوتاتٍ تحتفي أبديا بأسماء كــ”موزار” و”هايدن” و”بتهوفن” و”شوبير” … العلماء تُذكّرهم بالمئات من أمثال “كيبلير” و”غوس″ و”ريمان” و”هيلبير” و”هايزنبيرغ” … الكُتّاب يصافحون فيها “جوتيه” و”هولدرلين” و”شيلير” و”نوفاليس″ إلخ. أما بالنسبة لكثير من أجيال الحرب الثانية، خصوصا غرب “الراين”، بل ومن أجيال ما بعد الحرب – ربما تحت تأثير النمطية السينمائية ـ فالألمانية هي لغة القصف والعنف، لغة النازية والبشاعة، صورة شبيهة بتلك التي أخذتْ إعلاميا تلتصق بالعربية.

واصلتُ استغراقي في الصحف رغم أنْ ليس فيها إلا ما يدعو إلى الاختناق. في هذا الخط بالذات كان “تيودور أودورنو” سنة 1949 عائدا إلى “انفراكفورت” يتأمل مظاهر الخراب الذي تركتْه الحرب الكونية الثانية. من “باريس″ إلى “افرانكفورت” بعد عشرية من المنفى في الولايات المتحدة … قيل إنه نطق هنا عبارته الشهيرة “لا شعر بعد أوسويتش” أو الصيغة الأصلية : “أن تكتب شعرا بعد “أوسويتش” معناه أن ترتكب عملا همجيا” (النقد الثقافي والمجتمع Kulturkritik und Gesellschaft). الهمجية والتراجيديات الجنونية التي تجتاح أجزاء واسعة من العالم الإسلامي تحتكر أغلب الأخبار والتحليلات وتَطرح في نظري سؤالا غير بعيد من السؤال الذي طرحه “أدورنو” على ألمانيا : كيف لثقافة عالية أن تُنتج هذا الخراب وهذه الهمجية. الغرائز الأشد وحشية أصبحتْ تتباهى بقبحها أمام العالم من نيجيريا إلى شمال العراق. تمَّ غدْر وطمر ما بقي من كرامة. لا مكان لأي شيء عادل أو جميل حين تعود عبارات مثل سبي النساء ومشتقاتها إلى الواجهة، في شمال نيجيريا أو شمال العراق : في منطقة “الموصل” بالذات، كان المغول، كما يسرد ابن الأثير، قدْ ” قسّموا الرجال والنساء والأطفال والأموال فكان يومًا مشهودًا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل … أمرٌ عظيمٌ من قتل النفوس ونهب الأموال واسترقاق الأولاد وسبي الحريم وقتلهن وتخريب البلاد …”

من ينظر في صحيفة أو في تلفزيون يخجل من نفسه. العار يسابق نفسه خيلاء دون استرخاء … من يدّعون أنهم مسلمون يدمّرون كنائس في نيجيريا أو في العراق. وحده “ابن النحوي” يظل تلمسانيا صبورا يعرف معنى الربيع الجافّ ويتمسّك بجيميته (اشتدي أزمة إلخ).

“باول تسيلان” (أو “بول سيلان” كما ينطق الفرنسيون اسمه) كتبَ الشعر بعد “أوسويتش”. وأكثر من ذلك كتب الشعر عن “أوسويتش” :

“لقد حان الوقت كي تعرفوا

حان الوقت للصخرة أن تجهد كي تُزهر

حان الوقت بعد طول النفس أن يخفق قلبٌ

حان الوقت للوقت أن يحين

حان الوقت”

هل اضطر “أدورنو” أن يتراجع عن إصدار حكمه بنهاية الشعر؟ لقد كتبَ عن غنائية تسيلان أنها “مترعة بالخجل من الفن في مواجهة المعاناة التي تتفادى التسامي كما تتفادى الممارسة.” (Ästhetische Theorie).

“سنعيدكم إلى ما قبل العصر الصناعي” هذا ما قاله قبل ثلاث وعشرين سنة “جيمس بيكر” وهو يقف هنالك، أميالا خلف الطرف الجنوبي لبحيرة “كونستانس″، في فندق “الأنتيركونتنانتال” بـــ”جنيف”. المنطقة كلها عادتْ إلى ما قبل الإنسانية. حروب داحس والغبراء التي يتخفى سيافوها وراء رايات الملل والنحل تحولتْ إلى عدمية ما بعد مغولية. ربما لم يكن حتى “بيكر” يحلم بأن يحدث ما يقاربها. قال ابن الأثير عن المغول ” وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها… “

اتَّسعَ أفق المناظر مع مصافحة الخضرة الخلابة لحمرة الشمس المحتفية بما بعد الظهيرة. وضعتُ الصحف جانبا وتفرغتُ لسبر أطراف المدى الفسيح. الحدود التي نعبرُ هنا أصبحتْ فعلا وهمية. من نظرة واحدة من النافذة تمتزج غابات في ألمانيا وهولاندا وبلجيكا. في هذه “الفنسات العالية” يظهر جليا أن حدود الدول الوطنية (أوالقومية) التي تحاول أوربا بروكسيل أن تتجاوزها لم تكن في جوهرها إلا أقفاصا مادية واعتبارية سَجَن فيها الأوربيون أنفسهم. خلقوها بسلسلة من الحروب القبَلية البدائية التي استُخدمتْ فيها أكثر التقنيات تطورا وأشدّ المفاهيم قدرة على التمويه. وجرّوا معهم العالم إلى حربين بربريتين دمويتين. ودمروا أنفسهم بأنفسهم، أو اقتربوا من ذلك. ولكن، كما يحب مختصو فلسفة التاريخ أن يكرروا بحسرة : التاريخ يعلِّمُنا أن البشر لا يتعلمون من التاريخ.

 

من صفحة الكاتب  بدى ابنو