
بعد فترة جد قصيرة من بدء ملحمة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 وفشل الجيش الإسرائيلي في اكتساح واحتلال القطاع في حرب صاعقة سريعة، انطلقت من العواصم الغربية وخاصة واشنطن مسلسلات مشاريع ومقترحات وقف الحرب، ولكنها في مجملها كانت تستهدف أساسا نزع سلاح المقاومة الفلسطينية وتصفية سلطة حماس في القطاع ونزع الشرعية عن حق الشعب الفلسطيني في استخدام كل الوسائل بما في ذلك الكفاح المسلح والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة للتحرر من المستعمر وبناء دولته المستقلة ذات السيادة الكاملة. بعض هذه المقترحات الغربية وصلت إلى حد المطالبة بتصفية الوجود الفلسطيني في القطاع وتهجير 2.3 مليون فلسطيني إلى شبه جزيرة سيناء المصرية أو بلدان أخرى وتحويل غزة إلى منتجع سياحي "ريفيرا" المتوسط تحت ملكية عقارية استعمارية مشتركة أمريكية إسرائيلية.
الحقيقة هي أن حرب غزة ليست إسرائيلية فقط بل هي حرب يخوضها الجزء الأقوى عسكريا في تحالف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في إطار صراع شمال جنوب والسعي على مواصلة السيطرة على الشرق الأوسط والجهود المبذولة غربيا لمنع تعديل النظام العالمي القائم على الأحادية القطبية، هذا ما يؤكده عدد كبير من السياسيين والمحللين الغربيين ومن ضمنهم ريتشارد د. وولف (Richard D. Wolff) وهو اقتصادي أمريكي ينتمي لمدرسة الاقتصاد البدعي (مقابل مدرسة الاقتصاد السائد) وهو معروف بأعماله عن الاقتصاد الماركسي والمنهجية. وجون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو التي يدرس فيها منذ عام 1982. وأليستير وارن كروك وهو دبلوماسي بريطاني سابق، ومؤسس ومدير منتدى النزاعات في بيروت، وهي منظمة تدعو إلى التواصل بين الإسلام السياسي والغرب والكثير غيرهم.
مشروع الرئيس الأمريكي ترامب الأخير لوقف حرب غزة الذي يشارك في التوقيع عليه في شرم الشيخ المصرية يوم الاثنين 13 أكتوبر 2025 ما يزيد عن 21 من قادة دول، لا يختلف في أهدافه الرئيسية عما سبق، حيث يسعى إلى دعم تل أبيب والتغطية على فشلها بعد 24 شهرا من الحرب على تحقيق أهدافها رغم جرائمها وقتلها أكثر من 68 ألف فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، غير أن مشروع ترامب به ثغرات تسمح بتعديل أهدافه الخفية، تماما كما تم في حرب لبنان سنة 1983 حيث أجبر تفجير مقر مشاة البحرية الأمريكية في العاصمة اللبنانية بيروت على سحب القوات الغربية من لبنان ونهاية مشاريع تصفية قوى المقاومة بمختلف فصائلها.
الأمر تكرر بشكل مغاير نوعا ما في مسار مفاوضات استمر لسنوات بين واشنطن وحركة طالبان وانتهى بالتوقيع بتاريخ 29 فبراير 2020 في الدوحة، وذلك في منحه واشنطن وحلفاءها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ما عجزوا عنه عسكريا، وهي فرصة الخروج من أفغانستان دون خسائر بشرية كبرى جديدة خلال عام كامل، وذلك للمرة الأولى منذ دخول القوات الأجنبية للبلاد عام 2001.
في 25 مايو 2000، تحقق التحرير شبه الكامل لجنوب لبنان، وانسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة المحتلة، فعارضت قيادة جيش لبنان الجنوبي هذا الإنسحاب لعلمها أنه يعني التخلي النهائي عنها وتركها وعناصرها فريسة سهلة أمام المقاومين.
هرب عدد من المنتمين إلى هذا الجيش إلى فلسطين المحتلة حيث استقبلت تل أبيب بعضهم ورفضت البعض الآخر، وسافر عدد آخر إلى أوروبا، فيما سلم بعض الجنود أنفسهم إلى مقاتلي حزب الله الذي قام بدوره بتسليمهم إلى الأجهزة القضائية اللبنانية لمحاكمتهم.
هكذا وقعت النهاية الفعلية للميليشيا التي انتهى دورها مع أول صرخات التحرير وخروج الأسرى اللبنانيين من معتقل الخيام، وصرخة الغضب من أحد الهاربين المنتمين لهذه الميليشيا بوجه أنطوان لحد قائلا "كنا نعلم أننا سنطرد، ولكن بشرف"، ما زالت محفورة بذاكرة كل من واكب تلك المرحلة، وشهد على نهاية اندثار منظمة كان يقال إنها ستنشئ دولة ملحقة بإسرائيل عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
يتفق غالبية الملاحظين على أن تجارب سابقة لوقف القتال لمدة طويلة في قطاع غزة مثل صفقة الأسرى عام 2011، وهدنة نوفمبر 2023 القصيرة، ووقف إطلاق النار في مارس 2025، قد أظهرت أن اللحظات الأولى بعد أي اتفاق هي الأصعب حيث تتعرض لموجات متلاحقة من الخروقات الصغيرة التي قد تتحول إلى انهيار شامل. تعكس سوابق "إسرائيل" أنها غالبا ما تنظر إلى الاتفاقيات كأدوات مرحلية وليست مسارات إستراتيجية، ففي أعقاب صفقة تبادل الأسرى عام 2011، أعيد اعتقال عشرات من المفرج عنهم خلال سنوات قليلة، تحت ذرائع أمنية وإدارية.
كما شهدت فترات تهدئة متكررة عمليات اغتيال لقادة ميدانيين في حركة "حماس" ما دفعها إلى الرد وفتح جولات جديدة من الحروب، وهو ما يثير المخاوف اليوم من أن الاتفاق الحالي لن يكون استثناء، وأن التزام "إسرائيل" قد يتوقف بمجرد أن تتغير المصلحة الأمنية أو السياسية.
وقد يكون هناك خرق يوصف بـ"التدريجي الناعم"، ويتمثل هذا السيناريو في خطوات بطيئة وغير مباشرة، تبدأ عبر تشديد الإجراءات على المعابر وتأخير دخول المساعدات الإنسانية.
سوف تبقى متاهات لا تنتهي ولن تنتهي في الصراع الدائر في الشرق الأوسط منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية في سنة 1918 حتى تتمكن شعوب المنطقة من فرض المسار التاريخي الطبيعي.
اختراق أم فجر كاذب آخر؟
جاء في تقرير كتبه ليون هادار ونشره موقع ناشيونال إنترست يوم 11 أكتوبر 2025:
هناك أسباب مقنعة تجعلنا نتوقع أن ينتهي وقف إطلاق النار هذا مثل وقف إطلاق النار السابق.
يمثل الإعلان عن موافقة إسرائيل وحماس على المرحلة الأولى من إطار جديد لوقف إطلاق النار استراحة مرحبا بها من الحرب الكارثية التي عصفت بغزة لمدة عامين. ولكن قبل أن نحتفل بما يطلق عليه الكثيرون انتصارا دبلوماسيا، يجب أن ندرك حقيقتين مقلقتين: هذا الاتفاق يحمل أوجه تشابه مقلقة مع وقف إطلاق النار في يناير 2025 الذي انهار في غضون أسابيع، ويترك جميع القضايا الهيكلية التي أشعلت هذا الصراع دون حل يذكر.
لنكن واضحين بشأن ما حدث في يناير ومارس 2025. حيث وقع الجانبان اتفاقية من 3 مراحل، تفاوض عليها الطرفان بوساطة الولايات المتحدة ومصر وقطر. وتضمنت الاتفاقية تبادل أسرى وإطلاق سراح سجناء وتقديم مساعدات إنسانية والتزامات إسرائيلية بالانسحاب. وقد صمد الاتفاق لمدة 58 يوما بالضبط قبل أن تشن إسرائيل غارات جوية مفاجئة في 18 مارس، مستأنفة بذلك القتال بكامل قوته.
إن أوجه التشابه مثيرة للقلق. ففي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، أعلن الطرفان اتفاقا على شروط "المرحلة الأولى" مع الحفاظ على رؤى متضاربة جوهريا للمرحلة النهائية. وفسرت إسرائيل الاتفاقية على أنها توقف مؤقت يحفظ حقها في استئناف العمليات العسكرية إذا لم تنزع حماس سلاحها بالكامل وتعترف بالهيمنة الأمنية الإسرائيلية. أما حماس فقد فهمتها على أنها بداية لوقف إطلاق نار دائم يؤدي إلى انسحاب إسرائيلي وحكم ذاتي فلسطيني. ولا يمكن أن يكون كلا التفسيرين صحيحا.
إن الآليات التي فشلت آنذاك - الاعتماد على وسطاء لفرض الامتثال، وغياب آليات إنفاذ ملزمة، والاتفاق على العملية دون توافق على النتائج - لا تزال قائمة حتى الآن. وقد عدنا بشكل أساسي إلى بداية اللعبة التي يرفض كلا اللاعبين قبول قواعدها الأساسية.
ومع ذلك يختلف اتفاق أكتوبر من ناحية جوهرية واحدة وهو الموقف الأمريكي. فقد خلق استثمار ترامب في هذه النتيجة وتهديده الصريح لحماس بشأن إطلاق سراح الرهائن درجة من الضغط لم تحققها إدارة بايدن، على الرغم من كل جهودها الدبلوماسية. وتوعد ترامب بعواقب لعدم الامتثال، ويبدو مستعدالدعم تلك التهديدات بدعم ملموس لإسرائيل.
وهذا ليس إيجابيا ولا سلبيا تماما، بل يعكس حسابات مختلفة حول كيفية استغلال القوة الأمريكية في الشرق الأوسط. وتمثل خطة ترامب المكونة من 20 نقطة، مع "مجلس السلام" المقترح والإشراف الدولي، محاولة لإنشاء هياكل مؤسسية قد تثبت وقف إطلاق النار. ويبقى السؤال مفتوحا حول ما إذا كان ترامب قادراعلى الحفاظ على رأس المال السياسي والتركيز المستمر اللازمين لمثل هذا الجهد.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو ما يكشفه هذا النهج عن الاستراتيجية الأمريكية، حيث تتعامل الخطة فعليا مع الصراع بين إسرائيل وحماس كمشكلة منفصلة قابلة للحلول الدبلوماسية من أعلى إلى أسفل، في حين أنها في الواقع جزء لا يتجزأ من ديناميكيات إقليمية أوسع لا يمكن التفاوض بشأنها في اتفاق بوساطة واشنطن.
إن مصير وقف إطلاق النار هذا لن يعتمد في نهاية المطاف على الضغوط الأمريكية أو الهيئات الدولية، بل على ما إذا كانت الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية ــ وخاصة مصر وقطر والمملكة العربية السعودية ــ ستختار الحفاظ على الضغط على الجانبين، وما إذا كان موقف إيران الإقليمي سيتغير ردا على ذلك.
لقد قتل أكثر من 67 ألف شخص في حرب إسرائيل على غزة، وجرح 170 ألف، وأصبحت المنطقة بأكملها غير صالحة للسكن إلى حد كبير. كما كشف وقف إطلاق النار في يناير أنه حتى مع توقف القتال، فإن لوجستيات إعادة الإعمار مرهقة، وغالبا ما تظل القيود الإسرائيلية على مواد البناء والمعدات والموارد قائمة.
ولا يمكن إنكار الضرورة الإنسانية، إذ يحتاج سكان غزة بشدة إلى الغذاء والماء والكهرباء والرعاية الطبية، كما يجب لم شمل العائلات ويجب الحداد على الموتى. وتعد أحكام الاتفاق الحالي المتعلقة بالمساعدات الإنسانية وعودة النازحين إلى ديارهم خطوات أولى أساسية. ومع ذلك، فإن الوصول الإنساني وإعادة الإعمار الحقيقي أمران مختلفان تماما.
إن إعادة الإعمار الحقيقية كإعادة بناء المساكن والمدارس والمستشفيات والبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، لا تتطلب فقط دخول المساعدات، بل دخول الإسمنت والحديد المقوى والمولدات الكهربائية والمعدات الثقيلة. وتتطلب إعادة الإعمار حرية حركة سكان غزة داخل غزة وإلى العالم الخارجي وإنهاء الحصار، وليس مجرد فترات هدنة إنسانية داخله. وتشير تجربة يناير إلى أن إسرائيل ستقاوم التطبيع الكامل للتجارة والتنقل، معتبرة هذه القيود إجراءات أمنية ضد إعادة تسليح حماس.
وإليكم الحقيقة المرة: لا يمكن إعادة إعمار حقيقية دون معالجة المخاوف الأمنية التي تؤدي إلى هذه القيود. وهذا يتطلّب إما نزع سلاح حماس الحقيقي والتحول السياسي، أو إنشاء هيكل حكم فلسطيني لمرحلة ما بعد حماس، مدعوم بضمانات أمنية من الدول العربية. ويبدو أن أيا من هاتين النتيجتين غير مطروح على طاولة المفاوضات الحالية.
خلافات
إن الخلاف الجوهري بين إطار عمل ترامب ومطالب الحكومة الإسرائيلية لا يمكن حله كما هو معلن حاليا. فوفقا لخطة ترامب ينبغي أن تنتهي الحرب بعد تسليم حماس الأسرى. ومع ذلك، تقول إسرائيل إن الحرب لن تنتهي إلا بعد نزع سلاح حماس.
وهذا ليس مجرد اختلاف لفظي. فقد أكد نتنياهو باستمرار أن أهداف حرب إسرائيل تشمل التدمير الكامل لقدرات حماس العسكرية والسياسية. كما أشار، من خلال تصريحات كبار أعضاء الائتلاف ومن خلال السياسة، إلى أن السيطرة الأمنية الإسرائيلية طويلة الأمد على غزة - وخاصة ممر فيلادلفيا - لا تزال هدفاً حكوميا. وكشف بيان رسمي إسرائيلي في مارس 2025 أن حكومة نتنياهو تدرس ضم أجزاء من غزة رسميا وإعادة توطينها، وهو هدف يتعارض جوهريا مع حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وقد تكون مخاوف إسرائيل واردة ولكن لا يمكن لإسرائيل تدمير إيديولوجيا حماس بالقوة النارية. كما لا يمكن لحماس قبول تسوية دائمة تتخلى عن المطالبات الفلسطينية بالأراضي التي فقدتها عام 1967. وهذه تناقضات هيكلية لن يحلها أي ضغط عسكري أو وساطة دولية.
إن صمت الاتفاق بشأن إعادة بناء الوضع السياسي الفلسطيني يصم الآذان. فالسلطة الفلسطينية، التي تحكم الضفة الغربية، مهمشة في غزة منذ ما يقرب من عقدين. وحماس، التي تدير غزة، لا يمكن نزع سلاحها والبقاء قوة سياسية في آن واحد. ولم يبن أي بديل فلسطيني ذي مصداقية للحكم خلال الحرب.
ويمثل "مجلس السلام" الذي اقترحه ترامب، والذي يرأسه الرئيس الأمريكي ويضم قادة دوليين مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، محاولة لفرض حكم خارجي على غزة. ولطالما كانت نتائج هذه الترتيبات متباينة تاريخيا. فالإدارات الدولية في البوسنة وكوسوفو وأماكن أخرى كافحت لبناء مؤسسات محلية قادرة على الاستمرار بعد توقف الدعم الخارجي. وتواجه غزة تعقيدات إضافية، فهي ليست منطقة متجانسة عرقيا ولا تتمتع بتقاليد الحكم الديمقراطي، وعانت من حرب استمرت عامين.
والنهج الأكثر واقعية يتطلب بناء قدرات الحكم الذاتي الفلسطيني من الصفر، مع تقديم الدول العربية - وخاصة مصر والمملكة العربية السعودية - ضمانات أمنية ودعما اقتصاديا لضمان عدم تحول أي إدارة يقودها فلسطينيون إلى ملاذ لإعادة تسليح حماس أو النفوذ الإيراني. ويتطلب هذا التزاما طويل الأمد واستثمارا كبيرا من الدول العربية في الحكم الفلسطيني.
حماس تعيد بسط سيطرتها
ذكرت صحيفة فاينانشال تايمز في تقرير نشرته يوم الأحد 12 أكتوبر 2025:
باشرت حركة "حماس" إعادة سيطرتها على قطاع غزة في المناطق التي كانت قد توغلت فيها القوات الإسرائيلية بعد ساعات فقط من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
وأضافت الصحيفة نقلا عن شهود عيان قولهم إن الحركة أقامت نقاط تفتيش، وخاضت اشتباكات مع مليشيات أوجدتها إسرائيل، واعتقلت فلسطينيين يشتبه بتعاونهم مع إسرائيل.
وأوضحت استنادا إلى شهادات سكان محليين وصور متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديثات أمنية صادرة عن الأمم المتحدة، أن "حماس" تحركت سريعا في مختلف مناطق القطاع لإعادة ضبط الأوضاع الميدانية وتصفية حساباتها مع فصائل ومجموعات مسلحة تلقت دعما وتسليحا من إسرائيل خلال الحرب الأخيرة.
وأشارت إلى أن عودة حماس الميدانية المفاجئة بعد الضربات الإسرائيلية الواسعة أثارت دهشة سكان غزة.
ولفتت إلى أن الحركة أظهرت خلال الساعات الأولى من الهدنة استعراضا واسعا لقوتها، مؤكدة أنها ستتولى بنفسها "تعزيز الأمن والاستقرار وحماية حقوق المواطنين".
ففي شمال غزة، خاضت الحركة اشتباكات مسلحة مع مجموعة مسلحين من عشيرتين فلسطينيتين حصلت على دعم وتسليح من الجيش الإسرائيلي، وفق ما نقل دبلوماسي غربي اطلع على تفاصيل المواجهة.
وفي مدينة غزة، أقام مسلحون ملثمون نقاط تفتيش لتفتيش السيارات بحثا عن أسلحة، بينما شهدت خان يونس محادثات بين حماس وميليشيا محلية لتسليم أسلحتها تفاديا لسفك المزيد من الدماء، وفق ما ورد في قناة تلغرام تابعة لحماس.
وفي مناطق أخرى من القطاع، اندلعت اشتباكات متفرقة بين ميليشيات صغيرة نشأت خلال فوضى الحرب، بعضها كان قد تلقى السلاح من إسرائيل.
وطالبت حماس جميع خصومها بتسليم أسلحتهم خلال 48 ساعة وتسليم قادتهم للحركة.
الحرب لم تنته
في تل أبيب أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كلمة مسجلة، أن "الحرب لم تنته بعد"، محذرا من "تحديات أمنية كبيرة" تواجه إسرائيل في المرحلة المقبلة، في ظل ما وصفه بـ"استمرار أعداء الدولة في بناء قدراتهم العسكرية والاستعداد لمهاجمتنا".
وأضاف نتنياهو، في كلمته التي بثتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن بلاده تمر بـ"لحظة تاريخية"، مشيرا إلى أن "هناك من لم يصدق أن هذا اليوم سيأتي". ووصف الأجواء الراهنة بأنها "أمسية مثيرة"، مؤكدا أن "الكثيرين، ومن بينهم أنا شخصيا، آمنوا بإمكانية تحقيق هذا الإنجاز".
وحذر نتنياهو من استمرار الخلافات الداخلية، قائلا: "لا تزال هناك خلافات بيننا"، لكنه أعرب عن أمله في أن "يكون لدينا في المستقبل القريب كل الأسباب لتجاهلها".
وينظر في إسرائيل إلى هذه التصريحات على أنها محاولة لتعزيز موقف نتنياهو داخليا، خاصة في ظل الانتقادات المتزايدة لأدائه خلال الحرب على غزة، ولإعادة توجيه الرأي العام نحو "العدو الخارجي" كمصدر رئيسي للتحديات التي تواجه إسرائيل.
وفي ظل ما وصفه نتنياهو بـ"الحرب غير المكتملة"، يسود قلق بشأن تحرك عسكري إسرائيلي في المنطقة خلال الفترة المقبلة، خاصة بشن الحرب ضد إيران.
من جانبه صرح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائل كاتس يوم السبت 11 أكتوبر 2025"إن التحدي الأكبر لنا بعد إعادة المختطفين سيكون تدمير جميع أنفاق حماس في غزة بشكل مباشر"، مشيرا إلى أن تدمير تلك الأنفاق "هو معنى تنفيذ المبدأ المتفق عليه بشأن نزع سلاحها وتجريدها من قدراتها".
واعتبر الوزير في منشور له على منصة "إكس" أن تنفيذ تلك الأهداف سيكون من خلال "الآلية الدولية التي ستنشأ بقيادة وإشراف الولايات المتحدة".
وأضاف: "هذا هو المعنى الرئيسي لتحقيق المبدأ المتفق عليه، وهو نزع سلاح غزة وتحييد حماس. لقد أصدرت تعليماتي لجيش الدفاع الإسرائيلي بالاستعداد لتنفيذ هذه المهمة".
وفي وقت سابق، أكد نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في الخارج موسى أبو مرزوق في مقابلة على قناة RTعدم وجود بند لنزع سلاح "حماس" بخطة ترامب للسلام في غزة.
وصرح أبو مرزوق: "رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يستطيع نزع سلاح حماس وفشل في تحرير الأسرى والقضاء على الحركة". لافتا إلى أن "الغرب وقف مع إسرائيل ضد حماس ودعمها بالسلاح، ولا توجد ضمانات لعدم تجدد الحرب".
لا نزع للسلاح
يوم السبت 11 أكتوبر 2025 أكّد مسؤول في حركة حماس لوكالة فرانس برس، أن مطلب نزع سلاح المقاومة، والذي جاء في خطّة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن اتفاق غزة "خارج النقاش".
وقال المسؤول الذي فضل عدم الكشف عن هويته لوكالة "فرانس برس" إنّ "موضوع تسليم السلاح المطروح خارج النقاش وغير وارد".
وكانت فصائل المقاومة الفلسطينية قد أكدت في الذكرى الثانية لعملية "طوفان الأقصى"، أن العدوان الإسرائيلي منذ الـ7 من أكتوبر 2023 فشل في القضاء على المقاومة أو استعادة الأسرى بالقوة، وأن خيار المقاومة وسلاح الشعب حقان لا يسقطان. وأشارت إلى أن "عامين من الثبات والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية الباسلة في مواجهة أعتى احتلال عرفته البشرية، لم تسقط فيها راية شعبنا، ولم تخترق حصونه، ولم تنتزع مواقفه الوطنية".
ورفضت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يوم الجمعة 10 أكتوبر 2025 أي “وصاية أجنبية” على غزة، مؤكدة أن إدارة القطاع شأن فلسطيني داخلي بحت.
وقالت الحركات الثلاثة في بيان مشترك “نشدد على رفضنا القاطع لأي وصاية أجنبية، ونؤكد أن تحديد شكل إدارة قطاع غزة وأسس عمل مؤسساتها شأن فلسطيني داخلي يحدده مكونات شعبنا الوطنية بشكل مشترك”. لكنها أضافت أنها على استعداد “للاستفادة من مشاركة عربية ودولية في مجالات الإعمار والتعافي ودعم التنمية، بما يعزز حياة كريمة لشعبنا ويحفظ حقوقه في أرضه”.
وفي وقتٍ سابق، أشار الرئيس ترامب إلى أنّ "قضية تسليم حماس لأسلحتها سيتم تناولها في إطار المرحلة الثانية من خطّة غزة". وبعد ذلك بساعات أعلن ترامب أن الولايات المتحدة تدرك أن حركة حماس "تعيد تسليح نفسها" لاستعادة النظام في غزة، مشيرا إلى أن واشنطن "منحتهم الموافقة لفترة من الوقت".
جاء ذلك ردا على سؤال مراسل حول تقارير عن إعادة تسليح حماس وتأسيس نفسها كقوة شرطة فلسطينية وملاحقة "الخصوم".
وأوضح ترامب: "نحن متفهمون، لأنهم يريدون فعلا وقف المشاكل. وكانوا صريحين بشأن ذلك، وقد منحناهم الموافقة لفترة من الوقت".
ولفت الرئيس الأمريكي إلى حجم الخسائر البشرية في غزة قائلا: "لقد فقدوا 60 ألف شخص. هذا قدر كبير من الثأر. والذين يعيشون الآن كانوا، في كثير من الحالات، صغارا جدا عندما بدأ كل هذا".
وأضاف أن الولايات المتحدة توكل إلى حماس "مراقبة ألا تكون هناك جرائم كبرى أو بعض المشاكل التي تحدث عندما تكون لديك مناطق مثل هذه التي دمرت حرفيا".
واختتم ترامب بتفاؤل حذر: "أعتقد أن الأمور ستسير على ما يرام. من يعلم على وجه اليقين، لكني أعتقد أن الأمور ستسير على ما يرام"، في إشارة إلى عملية إعادة الإعمار والاستقرار في غزة.
لماذا الأن ؟
نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية يوم 10 أكتوبر مقالا للكاتب دانيال بايمان يتناول وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مع التركيز على أسباب توقيته والضغوط التي دفعت الطرفين لقبوله، وكذلك التحديات المحتملة لاستمراره جاء فيه:
يتضمن اتفاق وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره بين "إسرائيل" وحماس، والجاري تنفيذه حالياً في غزة، مكاسب كبيرة لكلا الجانبين. ستستعيد "إسرائيل" رهائنها المتبقين، ويعتقد أن نحو 20 منهم على قيد الحياة، إلى جانب جثث آخرين. في المقابل، ستفرج عن نحو 2000 أسير فلسطيني، وفقا للتقارير، وستنهي حربها المستمرة منذ عامين على غزة، وستسحب قواتها من أجزاء كبيرة من القطاع. تستحق إدارة ترامب الثناء على جهودها في دفع الاتفاق إلى الأمام.
لكن الخطوط العريضة للاتفاق كانت مطروحة على الطاولة لعدة أشهر. بقبولها، يتنازل كلا الجانبين عن مطالب رئيسية. تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتدمير حماس، ومع ذلك لا تزال الحركة الطرف الأقوى في غزة. في المقابل، أرادت حماس انسحابا إسرائيليا كاملا وضمانات بعدم استئناف "إسرائيل" لعملياتها، وكلاهما لا يزال غير مؤكد.
فلماذا اتفق الجانبان على شيء أقل من أهدافهما القصوى؟ ولماذا الآن؟
لنبدأ بحماس، التي لطالما تمسكت بالأسرى كوسيلة ضغط. احتجزت حماس رهائن عندما شنت هجومها في 7 أكتوبر 2023، لأنها كانت تعلم أن "إسرائيل" ستقدم تنازلات كبيرة لاستعادتهم. في عام 2011، أطلقت "إسرائيل" سراح أكثر من ألف أسير، معظمهم فلسطينيون، مقابل الجندي جلعاد شاليط، الذي أسرته حماس أيضا.
إضافة إلى سعيها للحصول على هذه التنازلات الضخمة، ربما كان قادة حماس قلقين من أن الإفراج عن جميع الأسرى سيطلق العنان لـ "إسرائيل" لشن هجمات أكثر عدوانية على غزة.
ورغم أن مصيرهم يشغل بال الكثير من الإسرائيليين، إلّا أن هذا القلق لم يكبح جماح العمليات العسكرية الإسرائيلية. فقد دأبت "إسرائيل" على إعطاء الأولوية لقتل قادة حماس ومقاتليها، كمحاولة هدم الأنفاق مثلا، حتى لو كان ذلك يعرض حياة أسرى للخطر. ولم يكن توغلها الأخير في مدينة غزة سوى أحدث مؤشر على أن الخطر على الأسرى لم يكن عائقا. ومع الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة، تستطيع حماس على الأقل استخدام الأسرى لتحقيق نوع من النصر، مما يجبر "إسرائيل" على الانسحاب، وفي الوقت نفسه، يطلق سراح أسرى الفلسطينيين.
حماس نفسها منهكة من جراء عامين من القتال ضد القوة الإسرائيلية الجبارة. اغتالت "إسرائيل" العديد من كبار قادة الحركة، بمن فيهم يحيى السنوار، كما حاولت اغتيال أو اغتالت قادة حماس في إيران ولبنان وقطر، حيث لم يبد أي مكان آمنا. في يناير، زعمت "إسرائيل" أنها قتلت ما يقرب من 20 ألف مقاتل من حماس. الأرقام الدقيقة متنازع عليها، لكن الأعداد مرتفعة بالتأكيد.
لم تنج سوى عائلات فلسطينية قليلة في غزة من دون خسائر، حيث تجاوز عدد القتلى 67 ألفاً الأسبوع الماضي، وغزة مدمَرة. لطالما تمنى الفلسطينيون هناك انتهاء الحرب. على شفا المجاعة ونقص الرعاية الطبية، ظل الفلسطينيون مهجَرين باستمرار بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية. كان كل يوم إضافي من الحرب بمثابة عذاب، والآن، يأملون أن تتدفق كميات كبيرة من الغذاء والدواء إلى غزة، وأن تبدأ إعادة الإعمار قريبا.
الإسرائيليون أيضا منهكون من عامين من الحرب الطاحنة. فالاستدعاءات المستمرة للاحتياط ترهق العائلات الإسرائيلية واقتصاد البلاد. فقدت "إسرائيل" مئات الجنود، وهو عدد كبير مقارنة بحروب غزة السابقة. وفي استطلاع رأي حديث، أيد ثلثا الإسرائيليين وقف إطلاق النار.
واجه الجانبان ضغوطا دولية أيضا. عادة ما تتجاهل "إسرائيل" الضغوط الأوروبية، لكنها لم تستطع تجاهل دونالد ترامب. يتمتع الرئيس الأمريكي بنفوذ سياسي كبير فيما يتعلّق بـ "إسرائيل". لو ضغط جو بايدن على نتنياهو للتوصل إلى اتفاق، وقاوم نتنياهو، لكان معظم الجمهوريين وبعض الديمقراطيين قد انحازوا إلى الزعيم الإسرائيلي. عندما يفعل ترامب ذلك، يتفق معظم الديمقراطيين، ويمكن لترامب أن يساند حزبه. كما أن ترامب يضفي طابعا شخصيا على السياسة، ولا بد أن نتنياهو قلق من أنه إذا تجاهل الرئيس، فلن يسامحه ولن ينسى. في سوريا واليمن وقضايا إقليمية أخرى، اتخذ ترامب مواقف متعارضة مع مواقف "إسرائيل".
كما أن ضمان ترامب الأمني لقطر يؤدي دوراً هاماً. فقد استشاط ترامب غضباً عندما هاجمت "إسرائيل" قطر، الشريك الوثيق للولايات المتحدة، والتي دأبت على استمالة الرئيس نفسه بهدايا مثل طائرة 747 فاخرة. ومن خلال وعدها بحماية قطر، تمكن الولايات المتحدة قطر من أن تكون ملاذا آمنا لأعضاء حماس الذين قد يكونون على قائمة أهداف "إسرائيل" لو بقوا في غزة.
بالنسبة لنتنياهو، فإن زيادة الضغط الأميركي بعد ضربة قطر تعني أن الوقت قد حان لاتخاذ القرار. فإضافة إلى الإرهاق العام والدعم الشعبي لاتفاق إعادة الأسرى إلى الوطن، كان ائتلاف نتنياهو نفسه يتآكل بالفعل بسبب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية في يونيو بأن الرجال الأرثوذكس المتشددين يجب أن يؤدوا الخدمة العسكرية. كان تحدي ترامب في حرب غير شعبية على نحو متزايد محفوفاً بالمخاطر من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية بالنسبة لنتنياهو، وكما يدرك معظم الإسرائيليين أهمية العلاقات القوية مع الولايات المتحدة، فيمكنه الاستشهاد بضغط ترامب كسبب للانسحاب أخيراً من دون أن يفقد أوراق اعتماده بين اليمين الإسرائيلي. نتنياهو هو أيضا سيد السياسة، ومع دخول "إسرائيل" موسم الانتخابات، يمكنه الآن أن يضع نفسه على أنه الرجل الذي "حطّم" حماس وحزب الله وأعاق البرنامج النووي الإيراني.
يعد الاتفاق الحالي إنجازا كبيرا وخطوةً مهمةً للأمام لكل من غزة و"إسرائيل"، وسيثبت أن استمراره أصعب. والخبر السار هو أنبعض العوامل التي ساهمت في التوصل إلى اتفاق، مثل الإرهاق لدى الجانبين والضغط العربي والأوروبي، من المرجح أن تستمر. أما العوامل الأخرى فهي أضعف. لتحقيق مكاسب سياسية خلال موسم الانتخابات، قد ينتهك نتنياهو وقف إطلاق النار باستهداف أحد قادة حماس، على سبيل المثال، أو يماطل في تقديم تنازلات غير شعبية، مثل إطلاق سراح زعيم فلسطيني مكروه من سجون "إسرائيل". من جانبها، قد تدرك حماس أنها لا تستطيع المخاطرة بفقدان السلطة كلياً في غزة أو التخلّي عن مكانتها التي اكتسبتها بشق الأنفس كحركة المقاومة الفلسطينية الأبرز.
كل هذا يعني أن على الولايات المتحدة التنسيق المستمر مع شركائها والضغط على جميع الأطراف للالتزام بالاتفاق، والمضي قدما في خطوات أكثر طموحا تشمل إعادة إعمار غزة، وعودة حكومة غير تابعة لحماس، والتقدم نحو إقامة دولة فلسطينية. إلا أن ترامب متقلب. قد تتغير مواقفه، فقد يركز على مشكلة مختلفة أو يخفف الضغط على "إسرائيل".
في نهاية المطاف، الاتفاق هو هدنة مضطربة ناجمة عن الإرهاق والضغط والحسابات السياسية. وسيعتمد استمراره على رغبة جميع الأطراف - وخاصةً واشنطن - في تحويل وقف النار الهش هذا إلى أساسٍ لتسوية أكثر استدامة، أكثر من اعتماده على نص الاتفاق.
عمر نجيب