
أزعم أنه لم يحدث، فيما أعرف من أحداث التاريخ، أن عرفت منطقة جغرافية معينة اجتماع الفخر والهوان في يوم واحد.
الفخر كان في الأرض الفلسطينية، وبوجه خاص في غزة ورام الله، وذلك بمناسبة عودة مئات الأسرى الفلسطينيين إلى ذويهم بعد أن فقدوا الأمل في الإفلاتِ من براثن الاحتلال الصهيوني، وهي عودة يجب أن نسجل أنها تجسد هزيمة غير مسبوقة لمجرم الحرب الإسرائيلي، الذي كان وعد منذ انطلاقة “طوفان الأقصى” بأنه سيمحو “حماس” نهائيا من وجه الأرض، وسيستعيد كل أسرى الكيان الصهيوني.
وكانت هزيمة “إسرائيل” في العثور على عناصرها رغم الإمكانيات الهائلة التي رصدتها في سبيل ذلك تأكيدا جديدا لما سبق أن نادت به قيادات عربية خبِرت الصراع مع العدوّ الاستيطاني، وكانت تردد بأن مواجهة الجيوش الاستعمارية لا تكون إلا بالمقاومة الشعبية طويلة النفس محكمة التنسيق، وذلك من منطق أن عدم انتصار الجيش النظامي هو الهزيمة بعينها، وعدم رفع المقاومة المسلحة للعلم الأبيض هو انتصار في حد ذاته.
وكان أكبر تعبير عن الهزيمة حساسية الكيان الصهيوني وذعره من احتفال أهالي الأسري المحررين بعودة الغائبين منذ سنين وسنين، والشراسة في منعهم من ذلك.
وهكذا انتهت إلى الأبد خرافة الدولة التي زعمت أنها ديموقراطية تُؤمن بالسلام، وأنها محاطة بوحوش عرب يريدون إلقاء شعبها المسالم في البحر، وهي الأكذوبة التي نُسبت لزعيم عربي لم ينطق بها على الإطلاق، كما تآكلت خرافة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، بحيث أصبح تعبير جيش “الدفاع” نكتة تثير السخرية بعد أن رأى العالم حجم الوحشية السادية التي تصرف بها عناصر جيشٍ بدا أقرب إلى الميلشيات الهمجية، واكتشف العالم أن عناصر “الغستابو” هم رواد روضة أطفال مقارنة بهم.
وفي مقابل ذلك سجل الفلسطينيون مرة أخرى، وبصورة أكثر شموخا، تمردهم على عنصر الخوف من العدوّ الصهيوني المدجج بكل أنواع الأسلحة والمدعم من كل الشمال وكثير من العرب، بل ونجحوا في أن ينقلوا الخوف إلى الجانب المقابل، وهو من أروع ما تجسد منذ السابع منذ أكتوبر 2023.
وكان أهم ما حققته المقاومة التحكم المخابراتي الرائع الذي لم تعرفه بلدان كثيرة في الوطن العربي طوال عقود وعقود، وقد رُويَ أن معلومة واحدة من مجاهد أو مدني عن موقع احتجاز أسير إسرائيلي كان ثمنها 5 مليون دولار، وظل العرض ساريا لمدة 23 شهرا، وكان آلاف المقاتلين والمحققين ورجال استخبارات المقاومة والذين يتولون تقديم الطعام والعلاج والمأوى والملابس وماء الاغتسال للأسرى الإسرائيليين كانوا كلهم يعلمون بمواقع الاحتجاز، ولكن لم تصل لإسرائيل معلومة واحدة من احدهم طمعا في 5 مليون دولار، في حين كان بعض الإعلاميين العرب على استعداد لفعل كل ما يطلب منهم مقابل حفنة من الأوراق الخضراء.
وحقيقي أن ثمن مواجهة الكيان المجرم كان ثمنا باهظا، وتطلب تضحيات رهيبة في الأنفس والأرواح أولا، وخصوصا على مستوى المدنيين العزّل، لكن تجارب الأمم والشعوب أكدت بأن ذلك هو الطريق الوحيد للانتصار الحقيقي، وتجربة الجزائر وفيتنام ليست بعيدة عن الذاكرة.
وهكذا كان ما نقلته وسائل الإعلام من الأرض الفلسطينية مثار فخر كل من يعرف معنى انتصار إرادة الشعوب، وكان ردّا على من راحوا يبررون تخاذلهم وتواطأهم مع العدو طوال الشهور الماضية بما ساهم في إطالة معاناة الشعب الفلسطيني وتسبب في الزيادة الرهيبة لعدد ضحاياه وفي تضخم حجم التدمير الذي أصاب وجوده العمراني، والذي لم تسلم منه دور العبادة والمدارس والمستشفيات.
وكان صمود الشعب الفلسطيني مثار فخر كل حرٍّ يعرف معنى استقلال الإرادة الوطنية، وهذا ما تناقض مع الهوان الذي عاشه المحتفلون في “شرم الشيخ”.
وكانت أول صور الهوان تعمّد “الكاوبوي” الأمريكي عدم احترام الوقت المحدد لافتتاح ما سُميَ “مؤتمر السلام”، حيث تأخر ما يقرب من أربع ساعات ظل القادة المدعوون خلالها يذرعون القاعة طولا وعرضا، كأب ينتظر مولوده الأول أمام غرفة العمليات، بعد أن طال انتظاره له سنوات وسنوات.
وكان خطاب الرئيس الأمريكي في “الكنيست”، بعد الترحيب الهائل الذي لقيه هناك، ما فهم أنه تبرير لحرب الإبادة التي مارستها إسرائيل، حيث أن الأمريكيين يعتزون بالسابقة المماثلة التي تمت في العالم الجديد، عندما انتزع شذاذ الآفاق الأوربيين الأرض من سكانها الأصليين الذين تعرضوا لإبادة جماعية لم يعرفها التاريخ، كشفت أن العنصر الأوربي متوحش بطبعه، وهو ما تأكد بعد ذلك في الجزائر وليبيا وإثيوبيا وناميبيا والكونغو وغيرها من المستعمرات الإفريقية، وما عاشته دول شرق آسيا، ناهيك مما عرفته الصين في حرب الأفيون التي شنتها زعيمة الديموقراطية الأوربية.
ولم يكن سرّا أن أكثر ما يرعب الكيان الصهيوني هو اختلال التوازن الديموغرافي لصالح الفلسطينيين، وهو ما يذكرني بتعبير رائع سمعته يوما من أحد المناضلين الذي قال عن الأرحام الفلسطينية أنها من أهم الأسلحة ضد الاستيطان الصهيوني.
وكان السؤال الذي يطن في رأسي هو: كيف قبل قادة أوروبا التاريخية وضعا أمام “الكاو بوي” جعلهم أسوأ من تلاميذ “باكالوريا” ينتظرون إعلان نتيجة الامتحان.
وكان الاستنتاج الوحيد الذي وصلت له هو أن عدوى الاعتماد السياسي على الرئيس الأمريكي قد انتقلت من القيادات العربية إلى القيادات الأوربية.
وهكذا كان من أهداف المؤتمر، في تصوري، التفاف القيادات الأوربية على هبة شعوبهم المتناقضة مع مواقفهم الداعمة للكيان الصهيوني، وهكذا قبل القادة الأوربيون المساهمة في وضعية مضحكة تجمعهم تحت شعار سلام لم يحضره المعنيون الأوائل بهذا السلام، والذين يشكلون القوتين المتواجهتين في ميدان القتال، أي المقاومة الفلسطينية ورئيس وزراء الكيان الصهيوني.
ولعلي لا أبالغ إذا زعمت أن مواقف القادة الأوربيين كان يمكن أن تكون غير ذلك، لو كان القادة العربي والمسلمون أقل تخاذلا مما كانوا عليه، والذي كان من دلالاته شكر رئيس وزراء باكستان جهود الرئيس الأمريكي لإيقاف القتال بين باكستان والهند، في حين يعرف العالم كله أن ما حدث كان هزيمة للهند بفضل السلاح الصيني.
ولعلي هنا أستطيع القول بأن التاريخ سيلعن كل من ساهموا في تدمير الاتحاد السوفيتي، والذي قام فيه المال العربي بدور أساسي، حيث أن غياب موسكو الحالي عن الساحة الدولية كان من أسباب تعنتر من أسماه كاتب جزائري” أبرهة” الأبرص أو الأشقر، في حين يسجل التاريخ أن الوطن العربي كان أقوى وأكثر قدرة على المناورة في ظل عدم الانحياز، عندما كان العالم يعيش وضعية الكتلتين الأعظم.
وتجلى الهوان في مؤتمر السلام المزعوم باستبعاد رئيس السلطة الفلسطينية حتى من الجلوس الصوري إلى مائدة التوقيع، مما كان محل شماتة كثيرين، ولقد سمعت أن الرئيس المصري هو من أصرّ على دعوته، ولعلّ ذلك كان الإجراء السيادي الرئيس الذي يمكن أن يُنسب له.
ولم يكن مما يمكن استبعاده كاحتمالٍ هو أن تلك كانت رسالة لمحمود عباس بأنه لا مكان له في مستقبل فلسطين، خصوصا وقد فرضت حماس نفسها كوجود يتحمل مسؤولية الحفاظ على الأمن في قطاع غزة.
وأخطر من ذلك، وهو ما بدا في خطب “الكنيست” من حديث عن “الهيكل” وعن “يهودا والسامرا” (ولم تستعمل كلمتا “الضفة الغربية”) وبما يمكن أن يؤكد أن المرحلة القادمة قد تشهد ضم هذه المنطقة إلى الكيان الصهيوني، ليصبح “قطاع غزة” هو كل فلسطين، وهو تهديد مباشر للمسجد الأقصى، بجانب ما يعني ذلك من مساس بكيان المملكة الهاشمية.
وظهر الهوان في تعامل الرئيس الأمريكي مع رئيس أكبر دولة عربية، فقد حرص “ترامب” على ان يستقبل بنفسه ووحده الرؤساء المشاركين في المؤتمر، في حين أن الرئيس”السيسي” سبق له أن استقبلهم، بصفته رئيس الدولة المضيفة.
وكانت قمة الهوان أن المضيف تلا خطابه من منبر يحمل في واجهته الشعار الأمريكي وليس شعار الرئاسة المصرية كما جرت العادة في كل المؤتمرات التي احتضنتها أرض الكنانة، وعناصر البروتوكول المصري من أكفأ العناصر في العالم.
وكان المؤسف أن الرئيس المصري أقحم في لقائه مع نظيره الأمريكي الرغبة في أن يرعى ترامب عملية إعادة إعمار غزة وذلك في إطار إشادته بضيف مصر، حيث أن ترامب، الذي كان الأدب يفرض عليه قول عبارة معناها أنه سيبحث الأمر بكل اهتمام، اكتفى بأن قال باستهانة: شكرا.
ولست أحب أن أقوم بدور الغراب، لكنني، ، ولأنني أعرف كما يعرف الجميع، قدرة الصهاينة على الخداع والمراوغة، آمل ألا يكون ما تم إنجازه مجرد هدنة مؤقته بدلا من أن يكون انطلاقةً لسلام حقيقي.
ولعل مما يثير توجسي تردد إسميْ اسحق ويعقوب بدون ذكرٍ لإسماعيل، بالإضافة إلى ما أفرزه الرئيس الفرنسي مشيرا إلى غموض الاتفاق، وتكليف “الغلام” صهر ترامب بمهمة الإشراف على المرحلة القادمة.
ولا أخفي ظنوني في أن من خلفيات من نظموا، فعلا ومظهرا، مهرجان شرم الشيخ كانت وستظل الإعداد للمواجهة مع إيران.
لكنني، وأنا أتذكر مقولة سيّد الخلق عن أن الخير في الأمة إلى يوم القيامة، لن أفقد الأمل في أن تدرك القيادات العربية أنها تملك القدرة على أن تفرض إرادتها، وتسترجع ثقة شعوبها وتنهي إلى الأبد وضعية السخرية التي يُنظر بها إليها في العالم كله.
ويبقى أن الأساس هو الثقة في الله وفي وعي الشعب الفلسطيني وفي حكمة قادة المقاومة.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق