
يستقبل الوطن العربي والعالم الإسلامي ذكرى هزيمة جوان 1967 بمشاعر لعل بعضها يقول: رُبّ يوم بكيت منه فلما أصبحت في غيره بكيت عليه.
والذكريات تزداد مرارة عندما نصل إلى اليقين بأن تلك الهزيمة، كما قلت يوما في تحليل مُطوّل، كان يمكن أن تكون نصرا ساحقا يجهض كل مطامع “هرتزل” ومخططات “بن غوريون” وأهداف القيادات البريطانية منذ بالفور ووصولا إلى ماكميلان، رئيس الوزراء البريطاني في 1967.
وفي ذكرى أكبر ضربة أصابت الوطن العربي والعالم الإسلامي في القرن الماضي، وأعني بها نتائج حرب جوان 1967 سأحاول استرجاع بعض ما قلناه آنذاك، ربما لمجرد القول بأننا كنا نعي تماما ما حدث ويحدث وسوف يحدث، مرورا بالزيارة المشؤومة للرئيس أنور السادات في نوفمبر 1977 ووصولا إلى مأساة “غزة “، ولم ننتظر القرن الجديد لندعي الحكمة بأثر رجعي.
يومها أعلن الرئيس الجزائري هواري بو مدين أنه يرفض الهزيمة، ولم يكن ذلك مجرد غرغرة بلاغية أو شعارات عاطفية بل إنه كان يسجل حقيقة عاشها كل متابع آنذاك للأحداث، وهي أن القوات المسلحة العربية لم تُعطَ لها الفرصة لكي تواجه العدو في معركة متكافئة، تحت قيادة مؤهلة، كما حدث في الأيام الأولى من أكتوبر 1973.
والأمة العربية، بتعبير الرئيس الجزائري، لم تضع كل إمكانياتها لتحقيق النصر الذي كانت تنتظره شعوبها.
ولهذا لا أخجل من التذكير ببعض ما قلناه في الستينيات، وأترك لمن يريد أن ينسى مواقفه آنذاك، أو من سوف يحاول التذكير بما يمكن أن يفعله تاجر مُفلس.
ففي الأيام التي تلت الخامس من جوان 1967، كتبتُ في مجلة الجيش وتحت عنوان “الأسبوع الأسود” وقلت:
” أحداث الأسبوع الدامي من جوان 1967، هي استمرار ذكي للعدوان الذي وقع في عام 1956، كما كانت تطبيقا حيا للدروس التي تلقتها الامبريالية والتي أدت إلى تحطم عملية ” الهاميلكار ” التي لم تفشل في تحقيق أهدافها الرئيسية فحسب بل ذهبت بحكم المحافظين البريطاني وهيبته وأسقطت خليفة ونستون تشرشل وصبيّ، أنتتوني إيدن، وتسببت، مع ثورة الجزائر، في انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة.
وبرغم الثمن الضخم الذي دفعه الشعب العربي في مصر في مواجهة العدوان الثلاثي والشجاعة الإستراتيجية التي أنقذت مجموع القوات المسلحة المصرية بالانسحاب الذكي من سيناء، فإن الأمة العربية خرجت من المعركة، بعد فشل العدوان في تحقيق أهدافه، بانتصار روحي وسياسي ظل طوال السنوات الماضية مخدرا لذيذا عشنا في ضبابه نغنى أهازيج الانتصار على الدول الكبرى.
ونسينا أن أشرس الوحوش .. اللبوءة الجريحة.
وتناسينا أن الامبريالية لا تنام.
إنها تعد العدة للانتقام، وتضع الأخطاء التي أدت إلى إجهاض العدوان الثلاثي على مائدة البحث الدقيق (وهو ما لم نفعله نحن مع الأسف).
فقد كان من الأخطاء الاستعمارية التي أدت إلى فشل العدوان الثلاثي في تحقيق أهدافه:
– التواطؤ المفضوح الذي حاكه رجال يقفون على المسرح السياسي في الدول المعتدية ( لقاء سيفر الثلاثي بين إسرائيل وبريطانيا وفرنسا) مما أثار حتى الغربيين أنفسهم، وأدى هذا إلى حدوث ثغرات في الصف الامبريالي كما وضع الاتحاد السوفييتي (.. موسكو خروشوف يومها) أمام حتمية التدخل حيث وجه الإنذار المشهور ( بعد ستة أيام من بدء العدوان !) مما استوجب التحرك الأمريكي (واشنطون آيزنهاور يومها) لحرمان الاتحاد السوفيتي من احتكار الموقف لصالحه، وهذا إلى جانب غضب الرأي العام الأوربي وردود الفعل المتضامنة التي سجلتها دول العالم الثالث والمتحررة منها بوجه خاص ( والتي استؤصلت نظمها التحريرية بعد ذلك أو حوصرت، تنفيذا للمخطط الرهيب المعد للقضاء على الكتلة الثالثة في العالم).
– فشل إسرائيل في تحقيق انتصار عسكري سريع يتجاوب مع نص الإنذار الاستعماري الذي افترض وصول قواتها إلى قنال السويس، وما تلا ذلك من انسحاب القوات المصرية إلى غرب القنال مفلتة بذلك من الفخ الرهيب الذي كان يستهدف تحويل سيناء إلى قبر كبير للقوات المصرية الضاربة.
وكان يجب أن يدبر عدوان جديد…أخذ جنينه ينمو في أحشاء الامبريالية بهدوء .. يتغذى من خلاصة تجربة 1956 .. وتعد له كل الوسائل التي تجعله وحشا دموي الرغبات .. يضرب بغدر .. وبنذالة”.(كان هذا ما قلته في جوان 1967).
ومرت سنوات وسنوات.
وبعد كل تلك السنوات يتأكد ما كنا تصورناه عن الأوضاع التي كانت وراء الهزيمة الساحقة لقوى العدوان الثلاثي، والتي تركزت في أمرين أولهما التواطؤ المفضوح لقوى العدوان والثاني فشل إسرائيل في تحقيق نصر سريع.
وأضيف إلى ذلك اليوم أن الأمة العربية استطاعت في 1956 أن تحقق حجما لا بأس به من التضامن، وهو ما لم يتوفر في 1967 حيث عرفت الأمة وضعية الانقسام التي أحدثتها ثورة اليمن في 1962، حيث كانت كل الملكيات تقف ضد نظام “السلال”، ومعظم الجمهوريات تتفاعل إيجابيا معه، ولو بالتضامن السلبي لأن عبء دعم الثورة قامت به مصر وحدها، حيث أن أكثر من ثلث الجيش المصري الذي أضطر لكي يُحارب في معركة خاسرة، حيث تفشل القوات النظامية في مواجهة حرب العصابات.
وهكذا تم الإعداد لحرب 1967 بحيث يتم الأمر كله بشكل سرّي، وقفت وراءه أولا عناصر المخابرات البريطانية الـ MI6، والتي ترجمت إرادة رئيس الوزراء البريطاني “ماكميلان” في الانتقام من هزيمة السويس، وفي مواجهة ثورة اليمن التي كانت تهدد قاعدة “عدن” البريطانية، التي كانت واحدة من بقايا وجود الإمبراطورية، ومن هنا قال ماكميلان للرئيس الأمريكي إيزنهاور عن عبد الناصر: سنظل وراء هذا الرجل إلى أن ننتهي منه.
في تلك المرحلة من الستينيات كانت الولايات المتحدة قد فقدت “كينيدي”، الذي كان أكثر تفهما للطروحات العربية وأكثر تشككا في المطامع النووية الإسرائيلية، وجاء على رأس السلطة في واشنطون الرئيس “جونسون” بكل عُقده “التكساسية” تجاه الشمال الأمريكي وكراهيته للعرب بتأثير ما تأثر به من محبي “مارك توين”، وتأثره بمخططات “إيغلتون” رجل المخابرات الأمريكية، وقبل ذلك ومعه بوقوعه تحت سيطرة أخطر من عرفهم العالم من النساء بعد “ماتاهاري”، وهي “ماتيلد كريم” التي كانت تمثل الإرادة الصهيونية في البيت الأبيض، حيث كادت تقيم فيه بانتظام متجاوزة وجود حرم الرئيس الأمريكي “الغلبانة”، وكانت العشيقة كانت من أشرس حماة المطامع الإسرائيلية.
وأعود مرة أخرى نحو نصف قرن إلى الوراء لأستذكر سطور مجلة الجيش في1967 والتي قلت فيها بأن الخطة استقرت على ” أن تقف إسرائيل وحدها وأن تبدو إسرائيل أمام العالم كله في صورة الخصم الوحيد الذي يتصدى للأمة العربية ويهزمها بدون تدخل خارجي، وهذا يضمن تفادي الأخطاء التي أدت إلى فشل عدوان 1956″ (ونجد هنا روعة الإنجاز الذي حققه طوفان الأقصى رغم الثمن الرهيب بفضحه الدعم الغربي الهائل للكيان الصهيوني وهو ما نتج عنه انهيار التعاطف الشعبي الغربي مع إسرائيل).
وكان يرتبط بهذا التخطيط أمر بالغ الأهمية هو أن يتم الأمر بأسرع ما يمكن، وهكذا يمكن تجاوز أي محاولة من “موسكو” لتكرار موقف “خروشوف” في 1956، خصوصا وأن القيادة السوفيتية التي خلفت الزعيم السوفيتي خفيف الدم بعد إزاحته كانت تعيش وضعية ارتباك تعرفها غالبا كل الدول التي يتم فيها تصفية الساسة الأقوياء بما يدفع إلى سطح القيادات السياسية أضعف الساسة، بكل ما ينتج عن ذلك من انهيار في مختلف المجالات (ولا داعي للتذكير بما عرفته “إيطاليا “من تصفيات !!!.).
وأعود إلى مقال “الجيش” الذي قلت فيه بأن الانتصار السريع للعدو الصهيوني سوف “يزرع عقدة الضعف والعجز في نفوس أبناء الأمة العربية، عندما تضرب الأكف في يأس مرير ….. كمشة يهود يغلبوا العرب ؟ .. بضعة ملايين يغلبوا مائة مليون ؟؟ “
وعندها يختفي تحت وطاة عار الهزيمة الثقل الضخم الذي ألقت به الامبريالية في المعركة لصالح إسرائيل فمن الذي يصدق المهزوم ؟ ! وهكذا تنتهي إلى الأبد أسطورة الوحدة العربية، ويتهالك الصف العربي بحيث يلقى كلٌ سبب الهزيمة على الآخر، ويستقر الأمر، لفترة طويلة على الأقل، للاستعمار ولقاعدته الرئيسية في الشرق الأوسط”.
يُضاف إلى ذلك، كما قلت يومها أنه:”عندما تبدو إسرائيل في صورة الخصم الوحيد للأمة العربية ومهما كانت المساعدات الضخمة التي تقدم لها تحت ستار المتطوعين وطائرات الأسطول الأمريكي المصبوغة بالألوان الإسرائيلية، فإن هذا يعطي الفرصة للإتحاد السوفييتي لكي يبرر أمام العالم الثالث عدم تدخله، وهذا يؤدي، بعد نجاح العدوان، إلى أن تخسر موسكو كل ما كسبته من احترام ونفوذ أدبي في المنطقة إلى جانب تصدع فكرة عدم الانحياز وهذا يؤدي إلى مزيد من العزلة بالنسبة للمعسكر الاشتراكي”.
وما زال للحديث بقية ….وربما بقايا.
دكتور محيي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق