
منذ سنوات وأن أحاول أن أفهم سر وضعية الخنوع التي أصبحت السمة البارزة لمعظم مناطق الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل والتي ازدادت بشكل فاضح منذ السابع من أكتوبر 2023، فتكررت “تراجيديا” الأندلس بصورة أقرب إلى الملهاة الكوميدية، وأصبحنا بمواقفنا المائعة “فُرجة” بين الأمم، مقارنة بمواقف مشرفة لشعوب كثيرة في الشمال، كان يحلو لكثير منا التنديد بما تعرفه من خلل أخلاقي وما تعيشه من ممارسات تتناقض مع كل الديانات والضوابط الاجتماعية.
ولم يعُدْ سرّاً أن شعوبنا تعيش صدمات نفسية منذ عقود وعقود، تسببت في إصابتها بما شبهته يوما بالبرود الجنسي الذي يُحول الأنثى الناضجة إلى كتلة من الرخام البارد كرخام المقابر، نتيجة لسلسلة من خيبات الأمل العاطفية التي أصيبت بها أكثر من مرة.
وأصبح من أسهل الأمور اتهام القيادات السياسية بأنها السبب الرئيس في وضعية غثاء السيل التي تعيشها معظم الجماهير في بلادنا، مع التذكير بأن تعبير القيادات السياسية يشمل السلطات القائمة وتجمعات المعارضة على حدٍّ سواء.
ومن السهل أن تشير أصابع الاتهام للنخبة المثقفة، متناسية أن صرخات الجماهير الحماسية التي يستثيرها الإعلام المرتزق تطغى أحيانا بل غالبا على أصوات العقلاء، وهو ما يُحمل الشعوب مسؤولية كبرى في خلق الطغاة، لأن القاعدة المعتمدة لتحليل الأوضاع السياسية تقول بكل وضوح إنه “كيفما تكونوا يولّ عليكم”.
وقد يكون هناك من يسارع إلى انتقادي قائلا بأن المأساة الدامية التي تعيشها أرض المعراج لا تحتاج إلى التحليلات والتساؤلات بقدر ما تتطلب خطوات عملية توقف جرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بها سلطات الكيان الصهيوني، وهو قول منطقي سليم لا يمكن أن أختلف معه، لكنني أقول بتواضع لا افتعال فيه بأن الله لا يُكلف نفسا إلاّ وسعها، ولا يمكن أن يُطلب من مثقف بسيط لا يملك إلا قلمه وحاسوبه أن يقوم بما كان يجب أن يقوم به من “أصيبت” بهم الأمة، قيادات وجيوشا جرارة.
وهنا يأتي أمر يثير الدهشة والاستغراب بالنسبة لمواقف البعض في مواجهة الإذلال الذي يمارسه الكيان وحلفاؤه، بما يُذكر بحكاية الحمار والبردعة.
وأعترف أنني أسِفتُ للقرار الذي اتخذته السلطات الأردنية بحظر جماعة الإخوان المسلمين، والتي كانت، في حدود ما أعرف، نموذجا للحكمة في التعامل مع الواقع السياسي للمملكة، مقارنة بما عرفناه في مناطق أخرى من حماقات ارتكبتها القيادات الإسلامية وأعطت الفرصة لمن يكرهون الإسلام للتغوّل والتنمر وزرع الكراهية ضد التيار الإسلامي، وصل إلى حد أن محل بقالة كتب على واجهته: لا نبيع للإخوان المسلمين.
وجعلني ذلك القرار أتصور أن المبرر الذي نُسب للجماعة هو نتيجة عملية اختراق مشبوه يبدو انه واقع نعيشه منذ سنوات وسنوات بدون أن نتنبه له أو ندرك خطورته.
وموقفي من جماعة الإخوان المسلمين سلبا وإيجابا معروف، وأتذكر أن الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وقد كنتُ مستشاره الإعلامي في عهدته الأولى، تعامل مع التيار الإسلامي بمنطق من يرى أنه شريحة هامة في المجتمع، مما يفرض الاعتراف به كعنصر وطني فاعلٍ يُجب أن يكون له حق ممارسة نشاطه العلني على رؤوس الأشهاد، ومن الخطر أن يُفرض عليه الاختفاء تحت الأرض، بما يدفعه إلى الانحراف والتطرف والإجرام.
وكان المؤسف أن بعض قيادات التيار الإسلامي عندنا تصرفت بحماقة لم يكن لها ما يبررها، وتمكنت من تهميش عناصر تتميز بالحكمة والعقلانية لتنطلق في عمليات استفزازية ضد نفس الرئيس الذي فتح أمامها فرصة النشاط العلني، وهكذا وقعت الجزائر في شراك العشرية الدموية التي نحاول اليوم بصعوبة تناسي ما عشناه خلالها.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كانت تلك الحماقات، وما ووجهت به من عنف يمكن أن نلتمس له بعض الأعذار، مجرد تجسيد لنزعات بشرية ذاتية أم كانت نتيجة وضعية كنا نتهرب من الاعتراف بها، وهي وضعية اختراق نكتشف يوما بعد يوم أنه أخطر مما كنا نتوقعه أو نتخيله.
ولقد اكتشفنا في الجزائر مؤخرا، وعلى ضوء ما يُطلق عليه عملية “صنصال”، أننا كنا مخترقين، بعد أن استسلمنا، إثر استرجاع الاستقلال، لمبدأ “عفا الله عمّا سلف”، ولم نفهم بأن العرق دساس، وبأن الطلقاء الذين سرقوا الإسلام ليسوا ظاهرة بائدة في التاريخ، بل إنها تتكرر في أعقاب كل انتصار تحققه الشعوب، ولم ندرك أن وضعية “الطابور الخامس” ليست مقصورة على الحرب الأهلية في إسبانيا بل إنها تتكرر في كل صراع حيثما وُجِد وكيفما كان.
ولم ندرك إلا مؤخرا أن العدوّ استفاد من فشل تجرية “إيلي كوهين” فاستطاع أن يجند من بعض المحسوبين علينا من يقوم بدور الجاسوس الإسرائيلي، بدون الحاجة إلى التضحية بأبنائه.
بل يمكن القول أن سلطات بأكملها أصبحت تقوم بدور من استعمل اسم “كامل ثابت” بدون الحاجة إلى الأسماء المستعارة.
وهكذا يُمكن القول بأن ما أصيبت به الأمة من خذلان سياسي وفتور تفاعلي وارتخاء وطني هو أساسا نتيجة لعملية اختراق بدأت من سنوات وسنوات، وما زالت تتواصل إلى يومنا هذا لأننا اعتبرنا بعض عناصرها أمورا هامشية لا علاقة لها بما تعانيه الأمة.
ولم أندهش وأنا أقرأ لبعض العقلاء بأن تمثيلية “مدرسة المشاغبين” كانت واحدة من عناصر اختراق مسموم نتجت عنه بداية احتقار المعلم، والذي كان احترامه جزءا رئيسا في تماسك المجتمع العربي، وتداركته اليوم شعوب استطاعت أن تصبح صورة للتقدم وللرخاء.
وأجد أمامي اليوم صورة من الاختراقات التي لم نكن نعيرها اهتماما، ومنها ما نُسب لشيخ أزهريّ يسميه الأشقاء في مصر بالشيخ “الضلالي”، وعرفناه خلال أزمة الكرة الشهيرة، حيث تفنن في صب الزيت على النار.
فالشيخ المذكور لم يجد ما يتوقف عنده، والوطن العربي يعيش مهانة لم يعرفها طوال تاريخه، إلا إثارة قضية “للذكر مثل حظ الأنثيين”، وركز على جانبٍ متناسيا معظم العناصر التي تناولتها قضية المواريث في الإسلام، وهو ما لا يجرؤ عليه شيخ كُتّاب في زاوية مهجورة، حيث أن مساواة الذكر والأنثى مقصورة على أربع حالات، بينما هناك نحو 30 حالة يتساوى فيها نصيب الأنثى مع نصيب الذكر، ناهيك من حالات ترث فيها الأنثى ولا يرث الذكر.
ولقد توقفت عند هذه القضية لأقول بأن ما جاء على لسان “الضلالي” ليس مجرد قصورٍ في المعرفة قد يكون من الطبيعي أن نجده عند مواطن عادي ولكنه تشويه متعمد لنصوص دينية لا يمكن أن يجهلها من يتقدم للناس كمختص في الأمور الفقهية.
وهذا لا يقوم به إلا مكلف بمهمة تخريبية، حتى ولو بدون وعي أو إدراك، لأن أهم عناصر حماية المجتمع تنظيم علاقة الأبناء بالآباء، حتى بعد الوفاة.
ويحضرني هنا أمر رائع يحافظ على هيبة الوالدين أمام الأبناء، ويكشفه النص القرءاني في سورة “النور” الذي يقول ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء”.
إلى هذا الحدّ يحرص الإسلام على حماية مشاعر الصغار، فحتى بعيدا عن حالة يكون فيها الوالدان في وضع لا يستطيع الطفل تفهمه ناهيك من تقبله، يكفي أن نتصور شعوره وهو يفاجأ بأن أباه العملاق المهاب يصدر عنه في نومه “نشاز” صوتيّ جرى العرف على اعتباره أمرا مخجلا لا يصدر عن كبير !!.
ببساطة، وبعيدا عن أي “بارانويا”، أقول بكل بساطة، إن علينا أن نعتبر كل محاولة لإثارة قضايا هامشية أو مغلوطة تتعلق برصيدنا التاريخي أو الديني جزءا من عملية اختراق مشبوه هدفها تدمير الوعي الجماعي للأمة وشلّ عناصر المناعة الوطنية للمجتمع.
والبعض لا يدرك أن الإساءة للقيادات التاريخية التي يلوكها من يتقدمون لنا تحت لواء المعارضة الوطنية هي من أخطر عناصر الاختراق التي تفتت صفوف الأمة.
وفي هذا الإطار يمكن أن نضع محاولة “الفرانكوش” عندنا الإساءة للأمير عبد القادر أو لغيره من القيادات الوطنية ومحاولة البعض في مصر التنديد بأحمد عرابي أو بسعد زغلول أو الإساءة لشيخ الأزهر، والأمثلة كثيرة في الوطن العربي.
باختصار شديد، ومع احترامي لآراء الفلاسفة من الغزالي إلى ديكارت من أن الشك طريق نحو اليقين، أقول بأن علينا، في المرحلة الحالية، أن نطبق القاعدة النحوية التي تقول بأن الخطأ الشائع مُقدّم على الصواب المهجور، وندين أي نقاش حول ما يجب أن يُترك اليوم جانبا، وما يمكن أن يخلق خللا في الانتماء أو توترا في الإجماع الوطني.
ولقد سنّت فرنسا قانونا يجرم من يُشكك في خرافة الستة ملايين يهودي، لأن مجرد التساؤل يهدم الأساس الذي قامت عليها الصهيونية، ويقوض بالتالي منطق إقامة الدولة اليهودية.
* – آخر الكلام: لم أكن أعرف أن الشيخوخة يمكن أن تبرر السقوط والبذاءة وقلة الأدب، إلا إذا كان تعبير “أولاد الكلب” مجرد تذكر لصلة عائلية.
ويبدو أن علينا اليوم أن نردّد : دعوت على عمرٍو..
ومعذرة أحرار غزة وحرائرها، فالرجولة تحت الأنقاض.
دكتور محيي الدين عميمور
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق