
ربما تشعر كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية سابقا وأحد كبار مهندسي تنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط انطلاقا من بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بالاحباط أو الغضب او الخوف وربما كل هذه المشاعر مجتمعة وهي تتابع التطورات الفوضوية التي تسود المسرح الدولي خاصة بعد استقرار خيارات المركب الصناعي العسكري في الولايات المتحدة ودعائمه من القوى الرأسمالية الكبرى في الغرب على ركوب مخاطرة المواجهة المباشرة بكل الأساليب مع القوى المنافسة للولايات المتحدة أساسا وللتكتل الغربي بشكل عام وذلك سعيا لمنع تعديل النظام العالمي القائم على سيطرة القطب الواحد الذي يفرض قواعد التعامل العالمية على الأسس التي تخدم مصالحه وحده وذلك تحت غطاء شعارات مختلفة.
الفوضى التي تنتشر في التكتل الغربي نتيجة الخلافات بين الولايات المتحدة من جهة وكل دول الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جانب آخر بشأن التجارة وطرق المواجهة مع روسيا في حرب أوكرنيا وسط شرق أوروبا، والصين حول التعريفات الجمركية واستراتيجية الاحتواء في محاولة لإعادة ثقل قوة التصنيع الدولية إلى الولايات المتحدة.
الرئيس ترامب يتبع ما يوصف بسياسة الصدمة سواء مع الحلفاء أو المنافسين والخصوم وهو يصدر قرارات ثم ما يلبث أن يتراجع عنها ولعل ذلك يعكس تقلص قدرات واشنطن بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل عشر سنوات أو أكثر. تراجع حجم القوة الأمريكية قد يقود البيت الأبيض في نطاق محاولته لفرض إرادته إلى مغامرة ركوب مغامرات عسكرية جديدة أو اقتصادية بإلغاء سيولة سندات الخزينة الأمريكية واستخدام أساليب الحظر على مالكيها، وهو ما سيقود إلى انهيار اقتصادي غربي وعالمي لا يمكن تقدير حجمه وأخطاره.
وفي الشرق الأوسط يسير البيت الأبيض بلا تردد وراء مخططات تل أبيب لإقامة إسرائيل الكبرى التي تتحكم في كل دول المنطقة، ويساند حرب الإبادة في غزة ويخلق مناخا متفجرا في كل المنطقة يهدد المصالح الغربية عندما يتخطى الضغط كل القدرات المحلية على التحكم. وتحشد واشنطن ولندن الأساطيل البحرية والقوى الجوية لضرب إيران ولتوجه في نفس الوقت تحذيرا لتركيا من الخروج عن مسار المخططات الأمريكية.
زبيغنيو بريجينسكي المفكر الاستراتيجي ومستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض الذي يعتبر من الجناح اليميني المؤيد للهيمنة الأمريكية أكد قبل سنوات وبعد الغزو الأمريكي للعراق على أهمية الشهور القادمة في حسم اضطلاع الولايات المتحدة بقيادة العالم محذراً من أن ازدياد سوء الوضع في العراق أو توسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط بمهاجمة إيران ربما يؤديان إلى أن تذكر كتب التاريخ أن عمر الولايات المتحدة كقائدة للعالم كان قصيرا جدا.
اعتبر بريجنسكي أن أحد أخطر التطورات المستقبلية المحتملة بالنسبة لأمريكا هو ظهور "ائتلاف صيني-روسي-إيراني" لا يمكن أن ينشأ سوى إذا أرادت الصين إنشاءه إذ ستكون هي الوحيدة التي تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية ما يسمح بمثل هذا الدور. وحذر المستشار السابق زملاءه في النخبة الأمريكية الحاكمة من التصرف بما يستفز مشاعر الصين القومية التي هي شديدة الحساسية لما عانته في تاريخها من مآسٍ ناجمة عن السيطرة الأجنبية، لاسيما من طرف اليابان وبريطانيا. بل دعا بريجنسكي أيضاً إلى استمالة إيران ذاتها ودفعها باتجاه الاعتدال، بينما رأى أن روسيا سوف تبقى خصماً للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
فيما يتعلق بمساحة أوراسيا كمركز للقوة العالمية، طرح بريجنسكي صياغة إستراتيجية جيو آسيوية للولايات المتحدة. على وجه الخصوص، وذكر ضرورة ألا يظهر أي منافس أوروبي أو آسيوي يمكنه الهيمنة على أوراسيا وبالتالي تحدي التفوق العالمي للولايات المتحدة.
يهتم جزء كبير من تحليل بريجنسكي بالاستراتيجية الجيولوجية في آسيا الوسطى، مع التوسع على تطبيق القوة على المساحة البرية الأوروبية الآسيوية فيما بعد الاتحاد السوفيتي. وفي فصله المخصص لما يشير إليه باسم «منطقة البلقان الأوروبية الآسيوية»، أشار ل نظرية قلب الأرض لهالفورد جي ماكيندر. قبل وفاته بعام (أي 2016) كتب بريجينسكي مقالة هامة (بعنوان: Toward a Global Realignment) كانت بمثابة الوصية الأخيرة، إذ أكد فيها أنَ الهيمنة الأمريكية باتت في أيامها الأخيرة وأن السياسة الأمريكية يجب أن تتجه لخلق تحالفات جديدة حتى مع القوى التي كانت تعد منافسا ومتحديا تاريخيا للهيمنة والقوة الأمريكيتين ومنها الصين وروسيا. والهدف من ذلك كله هو خلق نوع من إعادة التنظيم والتموضع (Global Realignment) للقوة العالمية الفاعلة.
ورأى أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط أصبحت مدمرة لذاتها إستراتيجيا، وصعدت إيران كقوة مؤثرة في العراق والخليج العربي، كما صعد اليسار المعادي في أمريكا اللاتينية.
7 أكتوبر 2023
سيقول التاريخ كلمته حول ما إذا كانت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها المقاومة الفلسطينية من غزة يوم 7 أكتوبر 2023 هي الضربة الأخيرة التي فجرت مرجل الضغط الذي تراكمت فيه الصراعات بين القوى الكبرى وسرعت بحركات التحول الضخمة على الساحة الدولية.
رصد معهد الأمن القومي الإسرائيلي في تقرير له بتاريخ 5 مارس 2025 التحديات التي تواجهها إسرائيل في ظل الحرب محذرا من ركود وانقسامات وضعف الجيش الإسرائيلي وعودة حماس قوية..
وحدد المعهد المخاطر والتهديدات التي تواجهها تل أبيب، لا سيما بعد حرب غزة التي أحدثت تغييرات كبيرة في المنطقة، مشيرا إلى أن على تل أبيب تحديث مفهومها للأمن القومي بهدف ضمان وجودها كـ"دولة آمنة".
وأشارت الدراسة إلى سيناريوهات التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل.
واعتبر اللواء تامر هيمان، المدير التنفيذي لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أن 7 أكتوبر 2023 تسبب بفشل كل من أوكلت إليهم مسؤولية أمن إسرائيل، بما فيهم القيادة السياسية والمؤسسة الدفاعية، وغيرهما من الجهات المرتبطة بالأمن القومي، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني ومعاهد البحوث.
واعتبرت الدراسة التي تقدم إلى صناع القرار في إسرائيل وصاغها خبراء على مدى الأشهر الأخيرة، أن "الحرب الحالية أعادت تشكيل الشرق الأوسط في خضم صراع عالمي بين القوى التي تسعى إلى تفكيك النظام الليبرالي وتلك التي تدافع عنه".
ويعتقد المعهد البحثي الإسرائيلي أن المنطقة حالياً تشهد منافسة ما بين ثلاثة متنافسين:
محور المقاومة الإيراني.
جماعة الإخوان المسلمين بدعم من تركيا وقطر.
تحالف من الدول المعتدلة.
ورأى المعهد الإسرائيلي أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب في الشرق الأوسط، من المرجح أن ينظر إليهما باعتبارهما مواجهتين عالميتين مركزيتين من شأنهما أن تشكلا مسار النصف الأول من القرن الحادي والعشرين.
بتاريخ 11 أبريل 2025 كشفت جهات رسمية حكومية في إسرائيل عن معطيات مقلقة بشأن هجرة الإسرائيليين إلى خارج البلاد بأعداد لم تعرفها الدولة من قبل، حاملين معهم أموالهم ومدخراتهم التي ينفقونها خارج إسرائيل على الودائع والسحوبات، وقد ارتفع تحويل أموال الإسرائيليين إلى الخارج بنسبة 50 في المئة.
وأرجع المسؤولون الحكوميون سبب هذه الهجرة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، والانقلاب القانوني، والإقالات التي تجريها الحكومة على كبار مسؤولي الدولة، مما تسبب بارتفاع كبير في هروب رؤوس الأموال للاستثمار في الخارج، وارتفعت نسبتهم إلى 62 في المئة منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023.
الحرب على إيران
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم 11 أبريل 2025:
زار رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو البيت الأبيض للمرة الثانية خلال شهرين في رحلة استثنائية بتوقيتها ومضمونها. فنتنياهو يقصد واشنطن المنشغلة بحرب الرسوم الجمركية مع الصين، فيما عينها على النظام الإيراني، الذي ستجلس معه "مباشرةً" في سلطنة عمان.
الرسوم الجمركية تصدرت مشهد القمة في البيت الأبيض، لكن الحدث الرئيس هو إيران. فماذا قال ترامب لحليفه نتنياهو الذي استدعاه على عجل؟ وهل أقنع نتنياهو ترامب بوجهة نظره بخصوص إيران؟ وماذا عن غزة وسوريا وتركيا؟
يبدو أن ترامب ونتنياهو غير متفقين حول انهاء حرب غزة بسرعة، فنتنياهو غير مستعجل على ذلك، على عكس ترامب الذي تحدث عن نقل السكان "طوعيا من قطاع غزة لتجنيبهم ما يتعرضون له من قتل وبؤس"، وهم ما استدعى ردا من السناتور الديمقراطي كريس فان هولن: "ترامب ونتنياهو يلطفان لغتهما بشأن خطة إخراج مليوني فلسطيني من غزة بشكل طوعي إرادي كما يقولان، لكن الأمر لن يكون إراديا ونحن ندخل اليوم السادس والثلاثين من فرض حصار إنساني على غزة. ليس الأمر إراديا عندما تكون غزة قد دمرت بالكامل تقريبا، فيما يهدد وزير الدفاع الإسرائيلي سكان غزة بالدمار".
يقول نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية سابقاً جويل روبن، إن زيارة نتنياهو لترامب كانت في جوهرها لمناقشة اجتماع الولايات المتحدة مع إيران في سلطنة عمان.
ويضيف روبن: "أن نتانياهو لم يحصل على التزام من ترامب بقصف إيران أو الموافقة على الشروط الدبلوماسية التي يبحث عنها نتنياهو، وهي التفكيك الكامل لكل البنية المعلوماتية النووية الإيرانية. لذلك كان اجتماعا مهما لناحية التواصل القوي بين ترامب ونتنياهو، رغم عدم حصوله على الكثير من النتائج".
الحشد العسكري
كثفت الولايات المتحدة مؤخرا حشدها العسكري في قاعدة جزيرة دييغو غارسيا العسكرية في المحيط الهندي، والقريبة نسبياً من إيران.
ويعتقد المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس أن أي ضربة جوية أمريكية محتملة لن تستهدف المنشآت النووية الإيرانية فحسب، بل ستستهدف أيضا قدراتها الدفاعية الجوية والصاروخية في محاولة لمنع أي رد انتقامي إيراني محتمل.
ويضيف بترايوس أن "نشر قاذفات الشبح الاستراتيجية B2 في قاعدة دييغو غارسيا، ليس فقط رسالة ردع لإيران، بل جزء من الاستعدادات المحتملة لهجوم عسكري عليها، فهذه القاذفات قادرة على حمل القنبلة الخارقة العملاقة MOP، والمخصصة لضرب المنشآت المحصنة بشدة في أعماق الأرض".
وبالحديث عن ضربة عسكرية أمريكية لإيران، واحتمالات نجاح المحادثات الدبلوماسية معها. يشدد قائد القيادة المركزية الأمريكية السابق الجنرال كينيث ماكينزي على أهمية ضرب الحوثيين.
الباحث الأمريكي تريتا بارسي يدعو، الرئيس ترامب لعدم الاستماع لنصائح نتنياهو ببدء حرب مع إيران. ويضيف بارسي أن "القيادة الإيرانية تعتقد أن ترامب أقدر من الرئيس السابق جو بايدن على التوصل إلى اتفاق مع إيران. وأن طهران تعتقد أن ترامب يريد حقا التوصل إلى اتفاق، وأنه مستعد وقادر على تخفيف جدي للعقوبات لتحقيق ذلك".
ويتابع: "لذا فإن الوعد لإيران أكبر بكثير مع ترامب مما كان عليه مع بايدن. ويبدو أن طهران مستعدة لتقديم تنازلات لضمان هذا الجانب الإيجابي. وهذا هو السبب الرئيسي، ولكن ليس الوحيد، وراء سرعة الأمور الآن نحو الدبلوماسية مع ترامب".
لكن، هل تقبل القيادة الإيرانية بطلب ترامب تفكيك برنامجها النووي على غرار ما حدث في ليبيا، بالإضافة إلى إلغاء برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، ودعم النظام الإيراني للقوى المناهضة لإسرائيل في بعض البلدان العربية؟
وفيما تطرقت المباحثات الأمريكية الإسرائيلية إلى الدور التركي المتنامي في سوريا، والذي لا يزعج ترامب بقدر ما يضايق نتنياهو. تبقى أنظار الجميع مصوبة نحو الملف الإيراني الذي تتسابق في الدبلوماسية مع الضربة العسكرية.
مصير الحرب الاقتصادية
ذكر موقع "أكسيوس" الأمريكي بتاريخ 12 أبريل 2025، أن السندات الأمريكية والدولار يفقدان مكانة "الملاذ الآمن"، وظهر ذلك جليا خلال انهيار الأسواق بعد الرسوم التي فرضها الرئيس ترامب.
وأشار الموقع إلى أنه خلال فترة انهيار الأسواق العالمية، تخلص المستثمرون من السندات الحكومية الأمريكية، من بين أشياء أخرى، وكذلك من الدولار، مضيفا أن "هذا أمر معتاد. ففي الحلقات السابقة من الاضطرابات الكبرى، مثلا في سبتمبر 2008 (في بداية الأزمة المالية العالمية) أو في الأيام الأولى للجائحة الكوفيدية في عام 2020، ارتفع سعر الدولار مع سعي المستثمرين العالميين إلى الأمان (الملاذ الآمن)".
وبلغ عائد السندات لأجل 10 سنوات 4.5 في المئة هذا الأسبوع، أي أعلى بنسبة 0.5 في المئة عنها في الأسبوع السابق. وتؤكدالبوابة على أنه على الرغم من أن العائد كان أعلى من ذلك في يناير الماضي، إلا أن سرعة ارتفاعه "مدعاة للقلق". كما انخفضت قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية في العالم بشكل ملحوظ. ونقل الموقع عن خبير أسواق العملات في "دويتشه بنك" جورج سارافيلوس، الذي لفت إلى أن السوق العالمية "تعيد النظر في الجاذبية الهيكلية للدولار كعملة احتياطية في العالم وتمر بعملية إلغاء سريع للدولار".
ولفت "أكسيوس" أيضا إلى أن مدى التغييرات في السوق العالمية ليس واضحا بشكل نهائي، حيث أن الانهيار الأخير في البورصات قد ينتهي به الأمر إلى أن يكون مجرد "بضع جلسات تداول متوترة". ومع ذلك، فإن المؤشرات الرئيسية للسندات والدولار ترسل إشارة إلى أن "الأساس لم يعد ثابتا".
جنون أم خطة واضحة؟
كتب المحلل السياسي ألكسندر نازاروف بتاريخ 9 أبريل 2025:
رفع الرئيس ترامب الرسوم الجمركية على البضائع الصينية إلى 104 في المئة، وأعلن رفع ميزانية الدفاع الأمريكية إلى تريليون دولار (وكانت 895 مليار العام الماضي).
لا يمثل انهيار أسواق الأسهم خلال اليومين الأولين بعد فرض ترامب الرسوم الجمركية على معظم دول العالم سوى رد الفعل المذعور الأول لأخبار سيئة، لكن الأسوأ لم يأت بعد.
فلم تنفجر بعد الفقاعات العملاقة التي نمت حول التوقعات غير المبررة للأرباح الهائلة من الذكاء الاصطناعي، وتحويل المركبات إلى الجر بالكهرباء، والتحول الأخضر، واستثمار الأموال التي طبعتها البنوك العالمية بشكل عام بعد أزمة عام 2008 وأثناء جائحة كورونا. وما لا زال ينتظرنا هو إنفجار الفقاعة الضخمة في بورصات الأوراق المالية.
وليس ما نراه الآن من انهيار في سوق الأسهم، بسبب تداعيات الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، هو ما ننتظره ولم نصل إليه بعد من انخفاض في الناتج العالمي، وموجة من الافلاسات العالمية بجميع أنحاء العالم، وتسارع حاد في التضخم.
ما حدث هو مجرد جزء صغير، مقطع تشويقي قصير، نشاهد منه الدقائق الأولى فقط، لفيلم الرعب المقبل. إلا أن حتى هذا كان كافيا لتوجيه ضربة قاسية للاقتصاد العالمي، وإعطاء فكرة عن التداعيات.
ومثل هذه الرسوم الجمركية المرتفعة، حال استمرارها فترة طويلة، لن تؤدي إلى تضخم كبير في الولايات المتحدة فحسب، بل من شأنها أيضا أن تؤدي إلى إغلاق جزء كبير من مركبات التصنيع في الولايات المتحدة والذي يعتمد بشكل كبير على المكونات الصينية. والتأثير التحفيزي للرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الصناعة الأمريكية متأخر للغاية، وقد لا يظهر إلا بعد بضع سنوات، وسيتطلب مجموعة من الشروط الأخرى، بعضها غائب، مثل العمالة الرخيصة، والاستقرار السياسي والمالي، وغيرها.
باختصار، لن نرى التأثير الإيجابي للرسوم الجمركية في أي وقت قريب، إذا قدر لنا أن نراه بالأساس، لكن الضرر واضح وسريع وهائل. ومن المؤكد أن ترامب لن يواجه سوى المتاعب في السنوات القليلة المقبلة.
أقول قولي هذا لأن أي طالب مبتدئ لديه قليل من الفهم للاقتصاد يدرك عواقب الرسوم الجمركية التي يتم فرضها. وإذا لم يفهم ترامب هذا الأمر، فلا شك أن هناك عدد كاف من الأشخاص في إدارته يستطيعون فهمه وشرح الوضع للرئيس. واللعب على رفع الرهانات يتطلب على الأقل الأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن الخصم لن يخلف وعوده وسيضطر ترامب إلى الوفاء بها، لأن العكس سوف يدمر لعبته مع كل الدول الأخرى، ولن يأخذه أحد على محمل الجد بعد ذلك.
نخب غير متزنة
كذلك لا يمكن استبعاد إمكانية أن تكون رؤية ترامب غير متزنة، لأن النخب الأمريكية والغربية كلها غير متزنة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، صدقت دعايتها الخاصة بشأن ضعف روسيا، والرواية الرسمية لأسباب الأزمة العالمية، والأمثلة كثيرة.
إلا أن النسخة الرئيسية التي أومن بها هي أن ترامب يقيم الوضع بشكل مناسب ولا يفعل سوى ما يجب أن يحدث على أي حال وفقا للخطة، بينما يحاول استخراج بعض الفوائد على الأقل من الوضع.
فترامب يدرك أن العولمة انتهت، وأن العالم قد بدأ فعليا في التفكك إلى مناطق معزولة عن بعضها البعض، وستكون هذه العملية دموية ومؤلمة للجميع. في هذه الحالة، لن ينقذ "زعيمة العالم الديمقراطي" مئة مليار إضافية من الخدم والحلفاء السابقين، الذين هم على استعداد لدفعها لواشنطن من باب العادة أو الخوف، لكنها قد تكون إضافة تافهة لا بأس بها من شأنها أن تخفف قليلا من حدة التحول.
يدرك ترامب كذلك أن الصين لن تستسلم وستفوز بالحرب التجارية. وحتى لو وافقت الصين ونصف العالم على الرسوم الجمركية الأمريكية، فإن ذلك لن يؤدي إلى إحياء الصناعة الأمريكية، بل سيفرض فقط ضريبة على دول أخرى ستملأ ميزانية الحكومة الأمريكية. إلا أن هذا الوضع لن يدوم طويلا، حيث امتد هرم الديون من الغرب إلى العالم أجمع على مدى العقدين الماضيين، وتحت وطأة العبء الإضافي ستنهار اقتصاديات العديد من البلدان. والرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، إذا قبلها الجميع، لن تؤدي إلا إلى تسريع انهيار هرم الديون العالمية والانهيار النهائي للاقتصاد العالمي، ما سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي أيضا. ويعني هذا أن رسوم ترامب الجمركية لا يمكن أن تصبح نظاما استعماريا جديدا، ولن يتسامح الاقتصاد العالمي مع ذلك.
الحرب مع الصين
وضع الصين هو الآخر صعب، حيث يعتمد النمو الاقتصادي على الحوافز الحكومية، ولكن، إذا لم يحدث إغلاق فعلي للتجارة وإمدادات المواد الخام إلى الصين، فإن احتياطيات الصين من الاستقرار ستكون أعلى من احتياطيات الولايات المتحدة.
وإذا كان ترامب يتوقع جديا ملء الميزانية الأمريكية من خلال الرسوم الجمركية، فهو أغبى مما أعتقد.
لكني أنطلق من فرضية أن ترامب يفهم عواقب أفعاله، وإذا استمر في رفع الرهانات، فإنه لا يفهم الوضع العام فحسب، بل ويقبله، ويتقبل عواقب أفعاله.
الوضع إذن هو أن الولايات المتحدة لا تملك إلا ورقة رابحة وحيدة: القوة العسكرية. وفي رأي المتواضع أن ترامب يستعد للحرب مع الصين، وبالنظر إلى سرعة التصعيد فإن ذلك سيحدث أسرع مما توقعنا. والرسوم الجمركية على الصين تشبه صفقة الموارد مع أوكرانيا، والمفاوضات مع إيران. هو نفس النمط Pattern، ذلك العرض الذي يجب على الخصم أن يرفضه ليمنح ترامب الذريعة وحرية التصرف في التصعيد أعلى وأعلى.
وحتى الآن، كانت الحجة الرئيسية ضد إمكانية اندلاع حرب ساخنة بين الولايات المتحدة والصين هي أن اقتصادي البلدين قد نما معا مثل توائم سيامية، والحرب بين نصفي هذا الكائن الاقتصادي الواحد هي أمر مستحيل. ترامب يكسر هذا الارتباط.
لكن العواقب الاقتصادية لذلك ستكون وخيمة، وقد تؤدي خلال بعضة أشهر، إن لم تزعزع استقرار الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، إلى زيادة الضغوط على ترامب على أقل تقدير، وتقسم الجمهوريين، وبشكل عام تشل تدريجيا مبادرات الرئيس وتعكسها.
يعني ذلك أن ترامب يجب أن يسارع إلى الحرب مع الصين، وأعتقد أننا سنرى قريبا حظرا أمريكيا كاملا على الواردات الصينية، ثم محاولة واشنطن لإجبار بقية العالم على الانضمام إلى مقاطعة البضائع الصينية، ثم، وبعد فشل هذه المحاولات، حصار بحري على الصين، قد يبدأ بالعدوان على إيران، وقطع إمدادات النفط والغاز من الخليج العربي إلى الصين.
طبعا، كل هذه مجرد روايات، وخيار بين عدم كفاءة ترامب ومحاولة التوصل إلى سردية يمكن أن تشرح خطواته بشكل عقلاني..
نحو الهوية
قال الرئيس ترامب إن سياسة الرسوم الجمركية التي فرضها على الواردات "تسير على نحو ممتاز".
يأتي ذلك بالتوازي مع تصريحات مماثلة للمتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت التي قالت: "هناك تفاؤل كبير في هذا الاقتصاد. ثقوا في الرئيس ترامب. هو يعرف ما يفعله، وهي صيغة اقتصادية مجربة".
لكن التوتر في الأسواق العالمية، والبلبلة التي أحدثتها الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب يوم 2 أبريل، لم تتوقف يوما منذ ذلك التاريخ الذي أسماه ترامب "يوم التحرير"، تحرير الصناعة الأمريكية، وإعادتها إلى الولايات المتحدة، التي، فيما يظن ويرى ويعتقد الرئيس، تتعرض لظلم وإجحاف، وميزان أعرج للصادرات والواردات، يريد هو بقراراته وأوامره التنفيذية، أن يغيره لصالح "العامل الأمريكي" و"الأمة الأمريكية" و"الاقتصاد الأمريكي". ولكن هل ينجح ترامب في قلب موازين لا الاقتصاد الأمريكي وحده، بل الاقتصاد العالمي بأسره، وهل يستطيع وقف التحرك الذي أصبح واضحا جليا نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب على أنقاض نظام أحادي القطب تهيمن عليه اقتصاديا وسياسيا وعسكريا الولايات المتحدة الأمريكية لا شريك لها.
يرى الاقتصادي الأمريكي المرموق وأستاذ جامعة كولومبيا ورئيس إدارة التنمية المستدامة بالجامعة جيفري ساكس أن التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب تشبه إلى حد كبير التعريفات الجمركية المعروفة باسم "تعريفات سموت هالي" لعام 1930، وهي عبارة عن إجراء تجاري حمائي وقعه الرئيس الأمريكي هربرت هوفر في الولايات المتحدة 17 يونيو 1930، وسمي باسم راعييه الرئيسيين في الكونغرس السيناتور ريد سموت والنائب ويليس سي هاولي، وقد رفع القانون التعريفات الجمركية على أكثر من 20 ألف سلعة مستوردة في محاولة لحماية الصناعات الأمريكية من المنافسة الأجنبية خلال بداية الكساد الكبير الذي بدأ في أكتوبر 1929. وهو ما كان مقدمة للكساد الكبير والأزمة الاقتصادية العالمية التي أفضت إلى الحرب العالمية الثانية.
وقد وقع هوفر على مشروع القانون متجاهلا نصيحة العديد من كبار الاقتصاديين، مستسلما لضغوط من حزبه وقادة الأعمال. كان الهدف من التعريفات الجمركية تعزيز العمالة المحلية والتصنيع، لكنها أدت إلى تعميق الكساد، لأن شركاء الولايات المتحدة التجاريين ردوا بتعريفات جمركية خاصة بهم، ما أدى في نهاية المطاف إلى انخفاض حاد في الصادرات الأمريكية والتجارة العالمية. ويعتبر الاقتصاديون والمؤرخون هذا القانون على نطاق واسع خطأ سياسيا، ويظل مثالا تحذيريا للسياسة الحمائية في المناقشات الاقتصادية الحديثة. وقد أعقبته اتفاقيات تجارية أكثر ليبرالية مثل قانون اتفاقيات التجارة المتبادلة لعام 1934.
من جانبه، قارن الاقتصادي والسياسي اليوناني يانيس فاروفاكيس، الذي يشغل منصب الأمين العام لحركة الديمقراطية في أوروبا، بين الوضع الراهن وما حدث أثناء "صدمة نيكسون"، وأعاد إلى الذاكرة ما قاله وزير الخزانة جون كونالي لنيكسون حرفيا قبل يومين من إصداره قرار إلغاء الرباط بين الدولار والذهب: "سيدي الرئيس، إنهم (الأجانب) يسعون للفتك بنا Screw us، وعلينا أن نفتك بهم قبل أن يفتكوا بنا".
وقد ألغى ذلك القرار أحادي الجانب قابلية التحويل الدولي المباشر للدولار الأمريكي إلى الذهب، وهو قرار اتخذه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 15 أغسطس 1971 ردا على تزايد التضخم.
وبرغم أن إجراءات نيكسون لم تلغ رسميا نظام بريتون وودز للتبادل المالي الدولي، إلا أن تعليق أحد مكوناته الرئيسية أدى فعليا إلى تعطيل نظام بريتون وودز. وبينما أعلن نيكسون نيته استئناف قابلية التحويل المباشر للدولار بعد تطبيق إصلاحات نظام بريتون وودز، باءت جميع محاولات الإصلاح بالفشل. وبحلول عام 1973، حل نظام سعر الصرف العائم محل نظام بريتون وودز فعليا بالنسبة للعملات العالمية الأخرى.
وقال نيكسون في حديثه عبر التلفزيون يوم الأحد 15 أغسطس 1971، عندما كانت الأسواق المالية الأمريكية مغلقة: "إن العنصر الثالث الذي لا غنى عنه في بناء الازدهار الجديد يرتبط ارتباطا وثيقا بخلق وظائف جديدة ووقف التضخم. يجب أن نحافظ على مكانة الدولار الأمريكي كركيزة أساسية للاستقرار حول العالم. وفي السنوات السبع الماضية، شهدنا أزمات نقدية دولية، بمعدل واحدة كل عام في المتوسط.. وقد وجهت الوزير كونالي بتعليق قابلية تحويل الدولار إلى ذهب أو أصول احتياطية أخرى مؤقتا، إلا بالمبالغ والشروط التي تحدد بما يخدم الاستقرار النقدي ويخدم المصالح العليا للولايات المتحدة. الآن، ما هو هذا الإجراء، الفني للغاية، وماذا يعني بالنسبة لك؟ دعني أضع حدا لمشكلة ما يسمى بتخفيض قيمة العملة. إذا كنت ترغب في شراء سيارة أجنبية أو القيام برحلة إلى الخارج، فقد تؤدي ظروف السوق إلى انخفاض قيمة دولارك قليلا. ولكن إذا كنت من بين الغالبية العظمى من الأمريكيين الذين يشترون منتجات أمريكية الصنع، فستكون قيمة دولارك غدا مساوية لقيمته اليوم. بعبارة أخرى، فإن تأثير هذا الإجراء سيكون استقرار الدولار.
الصين وأوروبا
في حديثه لرئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، أثناء زيارته لبكين، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ: "يتعين علينا معا أن نواجه ممارسات التنمر أحادية الجانب من قبل الإدارة الأمريكية". ورد على ذلك سانشيز بالقول إن التوترات في التجارة بين الصين والولايات المتحدة لا يجب أن تؤثر على التعاون مع أوروبا.
بالتزامن، يزور شي جين بينغ ماليزيا وفيتنام وكمبوديا، وهي دول تشارك جميعا الصين في الضرر الذي تلحقه رسوم ترامب الجمركية بها. كذلك يلتقي وزراء ترامب بنظرائهم من جنوب إفريقيا والمملكة العربية السعودية والهند، ليناقشوا تعزيز التعاون التجاري.
كذلك تفيد تقارير بأن الصين والاتحاد الأوروبي يجريان محادثات حول إمكانية إلغاء الرسوم الجمركية الأوروبية على السيارات الكهربائية الصينية، واستبدالها بسعر أدنى، للحد من جولة جديدة من الإغراق.
يعني ذلك، وهو ما يتفق معه الاقتصادي جيفري ساكس، أن الولايات المتحدة تتجه نحو عزلة بعد مواجهة معظم دول العالم بتعريفاتها الجمركية، وبدلا من فرض "قواعدها" على العالم، من واقع هيمنتها على النظام العالمي أحادي القطبية، فإن العالم بصدد التحول إلى عالم متعدد القطبية، ربما سيتمكن أخيرا من فرض "قواعده" على الولايات المتحدة الأمريكية، وعزلها حال لم تتمكن من التعايش مع القوانين الجديدة.
وهذا ما يفسره التصعيد الصيني للرسوم الجمركية على الولايات المتحدة، في الوقت الذي تمثل صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للصين أقل من 3 في المئة.
يعني ذلك أن لدى الصين بدائل للحركة والمناورة، وهي تتحرك على عدد من الجبهات بنشاط وفعالية للالتفاف حول الرسوم الجمركية الأمريكية، في الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، تصرح المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، ردا على سؤال حول ارتفاع توقعات التضخم بشكل حاد (أشار المشاركون في استطلاع للرأي أنهم يستعدون لارتفاع بنسبة 6.7 في المئة خلال عام 2026، وهي أعلى قراءة لتوقعات التضخم في الاستطلاع للعام المقبل منذ عام 1981) بأن "هناك تفاؤل كبير في هذا الاقتصاد. ثقوا في الرئيس ترامب. هو يعرف ما يفعله، وهي صيغة اقتصادية مجربة".
عدم اليقين
من جانبه صرح لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" الاستثمارية العملاقة لشبكة CNBC: "أعتقد أننا قريبون جدا، إن لم نكن فعليا في حالة ركود اقتصادي". مضيفا أن تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يوما على معظم أنحاء العالم "يعني إطالة أمد حالة عدم اليقين وزيادة حدتها".
وصرح جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك JPMorgan Chase، أكبر بنك في الولايات المتحدة، بأن أكبر اقتصاد في العالم يواجه "اضطرابا كبيرا" مع انخفاض مؤشر رئيسي لثقة المستهلك إلى أدنى مستوى له من جائحة "كوفيد-19"، وهو ثاني أدنى مستوى مسجل على الإطلاق.
وقد انخفضت ثقة المستهلك الأمريكي بنسبة 11 في المئة قبل فترة تعليق الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب، وفقا لاستطلاع رأي دوري تجريه جامعة ميشيغان.
عمر نجيب