
نشرت عدة شخصيات سياسية وثقافية نداء بعنوان “قبل فوات الأوان” يدعو إلى إطلاق مبادرة جديدة هي “تيار الأغلبية الصامتة” التي تقترح إصلاحات جذرية والقطيعة مع نمط الحكم الموروث من الماضي، في إطار الانتخابات الرئاسية المقبلة وما بعدها.
ودعت المبادرة، التي تهدف إلى أن تكون شاملة، إلى تجديد العرض السياسي بعيدا عن المنطق الزبائني والخطاب الشعبوي، وجاء في وثيقتها الأولى:
لقد بات من الواضح، في نهاية ولاية رئاسية خصصت إلى حد كبير لإعلانات لم تتجسد على أرض الواقع، أن النظام الحالي، الذي يسعى في المقام الأول إلى إرضاء الوجهاء والنخب الفاسدة، لم يعد يستطيعإحداث القطيعة التي يتطلع إليها الشعب ولا يبدو قادرا على خلق ديناميكية من شأنها أن تحقق الأهداف التنموية المرسومة. هذا الوضع ناجم عن غياب رؤية وبرنامج متماسكين، فضلاً عن جمود حكومة تفتقر إلى الحماس اللازم لخدمة الوطنويقتصر طموحهاعلىتصريف الأعمال.
وفي الوقت الذي استفاد النظامعند توليه للسلطة في 2019 من انطباع إيجابييعكس تفاؤلا بتغيير في نهج الحكم، فقد تدهورت الأمور بشكل كبير منذ ذلك الحين، فباستثناء بعض الإجراءات الرمزية، لمتكن هناك إنجازات ملموسة تذكر.والأسوء من ذلك أن قدرة رئيس الدولة والحكومة على التحرك والحسم أصبحت اليوم موضع تشكيك على نطاق واسع.ويتغذى هذا التصور من عدم كفاءة الحكومات المتعاقبة، التي أثبتت عجزها عن ترجمة الالتزامات الانتخابية إلى مشاريعبنيوية تساعد في انتشال البلد من المأزق. كما ينبع أيضًا من إحجام الأنظمة الممتاليةعن إحداث القطيعة المطلوبةحتى لا تتضرَ مصالحُ المستفيدين من الوضع القائم.
لقد ساهم هذا الفشل في انتشار الإحباط واليأس بين المواطنين، الذين أصبحوا يميلون للنزعات الضيقة، بسبب الشعور بالحرمان والغبن والتهميش وفقدان الأمل في قدرة النظام على القيام يالإصلاحات المطلوبة. في المقابل، يستمر بعض الفاعلين بالترويج لخطابيحرض على التفرقة، مبددين حلم الإصلاح المنشود.وتضع هذه الظاهرة مستقبل البلد في مهب الريح، حيث لم يعد المواطنيثق في جدوى الانخراط في القنوات الحزبية والمدنية كسبيل لتحقيق التغيير، في ظل ضعف المعارضة التقليدية وتلاشي قدرتها على توعية وتأطير الشارع.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر عدةُ مؤشرات وجودَ نقمة كبيرة ضد النخب وإحباطا عميقا أمام سياسات النظام الرامية إلى كسب ولاء الوجهاء والمفسدين وتوزيع الامتيازات والوظائف بينهم، على حساب الاستجابة لتطلعات المواطنين. فلم يعد الشعب، خاصة الفئات المهمشة، يستطيع التحمل والصبر، في ظل تراكم المظالم.وفي الوقت الذي وصلت خيبة الأمل إلى ذروتها، تزداد الفجوة بين المطالب الشعبية وضعف مستوى الأداء الحكومي وتتسع الهوة بين النخبة المتمسكة بنهجها والغارقة في امتيازاتها وغالبية المواطنين التي تكافح من أجل البقاء.
أزمة طموح
يتغذى الاستياء من التأثير المتراكم لارتفاع الأسعار، وتدني الأجور، مع استشراء البطالة والفقر والفساد الذي أتى على موارد الدولة، ناهيك عن ضعف ولوج المواطنين إلى الخدمات الأساسية، من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، وذلك حتى على مستوى العاصمة نفسها. ومما يزيد من نقمة المواطن كون الدخل القومي للبلد تضاعف خلال العقد المنصرم (2010-2022)ليفوق عشرة مليارات دولار، وهو ما يجعله ضمن قائمة الدول ذات الدخل المتوسط، دون أن يواكب ذلك تطور متناسب للبنى التحتية والخدمات. ونتيجة لذلك، لا يتمكن جزء كبير من السكان من الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما فيها الماء والكهرباءحتى في العاصمة نواكشوط. ويعود جزء كبير من هذه المشاكل إلى تأثير الفساد، وغياب رؤية تنموية طويلة المدى، وعدم التخطيط، وبطء تنفيذ البرامج الحكومية وكذلكإلى رفض القطيعة مع مع نمط الحكم الموروث من الماضي.
لقد فشل النظام طيلة الحقبة الرئاسية المنتهية في مواجهة التحديات التنموية، متذرعا تارة بآثار جائحة كورونا وتبعات حرب أوكرانيا تارة أخرى، حتى أصبح العمل الحكومي يقتصر على تصريف الأعمال، من دون رؤية جادة، مكتفيابإعادة إنتاج نموذج حكامة مبني على تدوير المفسدين وتمكينهم من مفاصل الحكم وتوزيع غنائم الدولة على أساس المحاصصة والزبونية، حيث امتاز الإعلام الحكومي خلال هذه الفترة بمضاعفة حفلات وضع الحجر الأساس وتقديمها كإنجازات، دونتنفيذأي مشاريع بنيويةمن شأنها إنقاذ البلد من وضعه الراهن. كما لجأ النظام، في سابقة خطيرةتعبر عن تراجع واضح في احترام الحريات، إلى تبنى ما سُمي بقانون الرموز، الذي يهدف إلى تكميم الأفواه ومنعالناس من حقها في المساءلة والمحاسبة والنقد.ويسلط القانون المذكور الضوء على الهوة بين شعب يطالب بحماية حقوقهوتحسين ظروفهالحياتية، ونخبة حاكمة تطمح لحماية رموزها بدل الإستجابةلتطلعات المواطنين.
هذه المعادلة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، حيث لا بد من خلق ديناميكية للإصلاح تبعث الأمل في النفوس، خاصة أن كل المؤشرات توحي أن فئات واسعة من المجتمع، وفي مقدمتها الشباب، بدأت تصاب بالإحباط، نظرا لإنعدام الآفاق. وفي هذا الصدد، يعتبرازدياد أعداد الراغبين في الهجرة وانشار الخطابات الشعبوية والعدمية، مؤشران يستدعيان القلق. فإذا اقتنع الجيل الصاعد بأنهلم يعد له مستقبل في وطنه وأن العنف هو السبيل الوحيد للتغيير، فمآل البلد لا محالة إلى الزوال.
مشروع التغيير
هذه الظروف تملي علينا اليوم الانخراط في مشروع يهدف إلى إنقاذ البلد، نظرا لإخفاق الحكومات المتعاقبة في تنفيذ سياسات تنموية ناجعة وفي ظل الإحباط السائد بين المواطنين. فلم يعد ممكنا ترك البلد في أيدي الطبقة الحاكمة الحالية، الضالعة في الفساد والتي تعاني من أزمة طموح، حيث يقتصر أُفقُها على إدارة الأزمات وتصريف الأعمال.إننا، كغيرنا من الغيورين على المصلحة العامة، نعتبر أن لدينا مسؤولية أخلاقية تجاه مستقبل البلد، لا تسمح لنا أن نبقى متفرجين بينما تسير الأمورنحو الهاوية. فنحن لا نرضى بأن نترك الدولة فريسة بين أيدي المفسدين ولا نقبل بالمشاريع الشعبوية كبديل.
لقد أصبح ملحا خلق ظروف ملائمة للتغيير على أساس رؤية وطنية متكاملة تتجاوز تسيير الوضع القائموتؤسس لمشروع شامل يسعى لتحقيق المواطنة وتكافؤ الفرص وتوزيع أكثر عدلا للثروة الوطنية، في ظل سيادة القانون.ويتبنى المشروع مقاربة شاملةلإعادة تأسيس العقد الاجتماعي بمشاركة جميع الفئات على أساس مبادئ العدل والمسؤولية والمساءلة.كما يهدف إلى توحيد تطلعات الفئات الاجتماعيةالمهمشةوتعزيز العدالةالاجتماعية، من خلال مكافحة الإقصاء والتمييز وإيجاد حل توافقي للنزاعات العالقة، التي تُقوضُ الوحدة الوطنية،بما يشملما يسمى ب"الإرث الإنساني"وإدماجالجميع فيسجلات الحالة المدنية.ويجب، في هذا الصدد، أن نعمل على مراجعة الأولويات واستثمار المزيد من الموارد لتلبية تطلعات الفئات الأكثر هشاشة وحرمانا، خاصة شريحة الحراطين، للتخلص من رواسب الرق، من خلال برامج ضخمة وهادفة، تتناسب مع حجم التحدي. ويجب أن تستند هذه البرامج على استراتيجية متعددة الأبعاد للقضاء علىهذه الممارسات وإعادة تأهيل ضحاياها لمعالجة المظالم الموروثة من الماضي وتعزيز التماسك الاجتماعي.
ينادي المشروع، الذيسيتم الإعلان عن مقترحاته المفصلة لاحقا، بضرورة إصلاح النظام التربوي، الذي يشكل أساس أي نهضة وطنية. ذلك أن معدل النجاح الضئيل في امتحانالبكالوريا خلال السنوات الأخيرة يشكل مؤشرا مقلقابالنسبة لمستقبل البلاد، مما يتطلب التطوير العاجل لسياسة فعالة لتحسين جودة التعليم والرفع من قدرته على تكوين القوة العاملة التي تحتاجها الدولة لتنميتها.كما يستدعيالتغييرإعطاء الأولوية للشباب كفاعل أساسي في التنمية، عبر تطوير سياسة طموحة، تركز على خلق فرص العمل وتعزيز المواهب وتوسيع دائرة المشاركة. وستمكن هذه المقاربة من مواجهة البطالةوالهجرةالجماعية اللتين تضربان الشباب وتشكلان تهديدا لمستقبل البلد. وينبغي أيضا إيلاء نفس الاهتمام لتمكين المرأةلتتمتع بجميع حقوقها،لا سيما في المناطق الريفية.
نحن ندرك أن الطريق طويل للتأثير على نمط قيادة البلد، لكن النجاح وليد الطموح وروح المبادرة. فعلينا أن نغتنم الفرصة الراهنة، التي قد لا تتكرر وأن نتعلم من أخطاء الماضي وإخفاقاته. فالهدف خلق بيئة مواتية لبناء المستقبل، باعتبار السلطة وسيلة لتحقيق مقاصد سياسية واقتصادية واجتماعية وليست غاية في حد ذاتها. هذه الخطة تمر عبر تكاتف الجهود والعمل في الميدانلتوسيع الوعيعلى امتداد التراب الوطنيوتعبئة الأغلبية الصامتة، التي عزفت عن المشاركة السياسية، من أجل إحياء الأمل، خاصة لدى الشباب، وتوحيد صفوف من يسعون لتصحيح المسار.
خيار الإصلاح
لقد اصطدمت حتى الآن المحاولات لتوحيد الأصوات المنادية للإصلاح بالمطالب الفئوية التي تؤلب الموريتانيين ضد بعضهم البعض، وتصنفهم حسب الانتماء الاجتماعي والعرقي. ذلك الخطاب يصبفي مصلحة استمرار الوضع الراهن ويؤخرأجل التغيير، نظرا لرفضه من طرف الأغلبية الصامتة ولحظوظه المحدودة في تحقيق الإجماع. كما أن النظام يخشى نهجا إصلاحيا يوحِّد مختلف الفئات أكثر منمشروعشعبوي لا يمكنه أن يقدم بديلامقبولا للجميع، إذ أن الفشل في توحيد مطالب التغيير من خلال مقاربة شاملة هو ما أضعف حتى الآن الجهود للتغلب على منطق الهوية والانتماء واستبداله بمشروع يستجيب لتطلعات الجميعوقادر على إحداث التناوب السياسي.
لم يعد الحد الفاصل اليوم يفرق بين المعارضة والموالاة، وإنما بين المصلحين والمدافعين عن استمرار الوضع القائم. هذا الخط يمر الآن داخل صفوف المعارضة والنظام، كما يفصل في المجتمع بين المستفيدين من الفساد ومن يتوقون للتغيير. لذا، فمن الحيوي توحيد جهود دعاة الإصلاح لإستبدال النخب الفاسادة، والتي ما دامت في السلطةلنيحدث أي تغيير، بنخب جديدة، تحمل أفكارا وقيما بديلة وتضع خدمة المواطن فوق كل اعتبار. ويتطلب هذاالهدف تكوين كتلة وازنةمن المصلحين،مستعدين للعمل على المدى الطويل إحداث التغيير المطلوب،تتكون من نساء ورجال مدركين لحساسية الموقف، ويملكون الجرأة والشجاعة والطموح والريادة لمواجه وإحياء الأمل.
في هذا الصدد وإيمانا بضرورة القطيعة مع أساليب الماضي من فساد وزبونية ومحاصصة، قد قررنا إطلاق إطار جديد للتفكير والعمللبناء المستقبل المنشود، ندعو الغيورين على مصلحة البلدإلى الالتحاق به والمشاركة فيإنجازه.كما نتوجه إلى كل من يحلمونبدولة تحكم بالعدل والمساءلة ويجدون أنفسهم في هذا النهج للمساهمة الفاعلة في هذهالمبادرة. بلدنا لا يحتاج بالضرورة إلى زعيم مُلهمٍ بقدرما يحتاج مشروعاجماعيا، قادرا على كسر الجمود والخروج من دائرة الاستقطابات الاجتماعية لتعبئة الموريتانيين لإستئناف عملية البناء واستعادة قدرةالدولة على الاستجابة لتطلعاتهم.
تمر بلادنا بلحظة دقيقة من تاريخها المعاصر، حيث تواجه تحديات تنموية كبيرةوتستعد لدخول مرحلة استغلال الغاز، وهي مرحلة لا تتلاءم مع الترددوالمجاملات، بل تستدعيخيارات حاسمة ومقاربة طموحة للتعاطي مع التحديات والاستفادة من الفرص، مما يتطلب قطيعة مع ممارسات الماضي، وتأسيس نظام حكامة جديد، مبني علىمشاركة الجميع وعلى الشفافية والمساءلةحتى لا تعصف تداعيات اليأس والقنوط باستقرار البلد. اليوم أكثر من أي وقت مضى، علينا أن نتدارك الأمور قبل فوات الأوان.