أعترف أنني سعدت بل وفوجئت بالشريط الوثائقي الذي قدمته قناة “بلانت” الفرنسية عن الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الذكرى الثالثة والخمسين لوفاته، والذي أعطى الزعيم المصري جانبا هاما من حقه من التكريم، كزعيم عربي أحب أمته وناضل من أجلها ومنح بلاده قفزة حضارية نوعية لا يمكن أن يُقيمها إلا من عرف مصر قبل 1952، وبغض النظر عن ارتكاب البرنامج بعض أخطاء ناتجة عن الأسلوب النمطي الغربي في التعامل مع القضايا العربية.
وفي حدود ما أعرف وأتابع، وباستثناء برنامجين في قناة “ماسبيرو” المصرية، لم تخصص أي قناة عربية أي وقفة تليق بالزعيم الذي دعم حركات التحرر العربي، والجزائر في مقدمتها، والرجل الذي دمّر “أنتوني إيدن” وأذلّ “غي موليه” وفضح “دافيد بن غوريون”، والثلاثة كانوا أبطال مهزلة “سيفر” التي كانت فضيحة سياسية لم يعرف لها القرن العشرون مثيلا.
ولست هنا في معرض تمجيد إنجازات الزعيم المصري، وهي رائعة اقتصاديا وسياسيا وعلميا، أو استعراض انكساراته وهو خطيرة ومؤلمة، لكنني لا أملك، للأمانة، إلا أن أتذكر التعبير الشهير عن الليلة الظلماء التي يفتقد فيها البدر، وأجد أن من واجبي أن أتوقف لحظات عند مسيرة الرجل الذي تتحملُ تجاوزات أجهزة المخابرات المسؤولية الرئيسية في الانزلاقات التي عرفها عهده، والتي كان من المنطق أن تكون درسا لكثيرين لم يحسنوا استيعابه.
ولقد ألف مُنظرو بعض المقاهي من متقاعدي الساحة العامة اتهام ناصر بتناقضه مع الديموقراطية، والذي يرددون هذا لا يعرفون وضعية الشعب في مجتمع “النصف في المائة” الذي عرفته أرض الكنانة، والذي مع ذلك كان يتحمل مسؤولية كسوة الكعبة وتوزيع صدقات على من يحتاجها من ضيوف الرحمن.
ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن من أهم الثغرات كانت تناقض ناصر مع قيادة حركة الإخوان المسلمين، والتي لا يتحمل وحده مسؤوليتها، ولقد عشنا نحن مثلها.
لكن هزيمة يونيو 1967 وتداعياتها التي تُعاني منه الأمة إلى يومنا هذا كانت الوزر الأكبر الذي يُحمّل ناصر مسؤوليته، ولسبب بسيط يتلخص في أن الرئيس هو المسؤول الأول الذي يجب أن يحاسب عن كل قصور أو تقصير.
لكن النزاهة الأدبية تجعل من حُكم كهذا، يُركز على الهزيمة العسكرية في حد ذاتها، أمرا أقرب إلى الكلام المرسل، وهو ما أحب أن أتوقف عنده على ضوء تجارب السنين.
ذلك أن مسؤولية جمال عبد الناصر تعود إلى سنين خلت، حيث كان يعيش هاجسا أمنيا نتيجة لسهولة تنفيذ الانقلاب على الحكم الملكي، وهو ما شرحه أحمد حمروش باستفاضة، وهذا جعل ناصر يضع ثقته المطلقة في صديقه ورفيقه التاريخي، عبد الحكيم عامر، الذي كان شابا وطنيا مخلصا لبلده، ولكن نموه العسكري توقف عند رتبة الرائد، وجعلته ثقة الرئيس يتحمل مسؤولية أكبر منه بكثير، وكانت حياته الاجتماعية كابحا لمقدرة كان يجب أن تكون أعلى مما كانت عليه في مواجهة عدوّ شرس وعالم لا يرحم.
ويروي لي اللواء خالد نزار الذي عاش فترة في مصر عل رأس القوات الجزائرية التي أرسلها الرئيس هواري بو مدين دعما للقوات المصرية وشارك في بعض المناورات الحربية التي كانت القوات تجريها هناك، بأن بعضها كانت تظاهرات “مطبوخة” لمجرد إقناع القائد العام بجدية التدريبات العسكرية، وهو ما رواه وزير الدفاع الجزائري بعد ذلك في مذكراته.
وربما كانت هذه الحقيقة المرّة غائبة أو مغيبة عن رئيس الجمهورية، ومن هنا أخذ تعبير عامر على محمل الجدّ عندما قال له: برقبتي يا ريّس.
وفي حدود معلوماتي العسكرية المتواضعة، من حقي أن أهزأ من آراء الذين يعتبرون أن مسؤولية ناصر عن الهزيمة هي أنه لم يبادر بالهجوم على العدو ولم ينتظر منه الضربة الأولى، فهم يتجاهلون أن أي هجوم ناجح يفرض أن يكون حجم القوات المهاجِمة ( بكسر الجيم) ثلاثة أضعاف القوات المهاجمة (بفتح الجيم)، وبعد توفر معلومات كافية مدققة عن وضع العدو، وافتراض وجود احتمال رابع إذا لم يكن هنا إلا ثلاثة احتمالات، وهذا بالإضافة إلى أخذ تحذير الجنرال شارل دوغول من أنه سيقف ضد من يبدأ الهجوم بعين الاعتبار، وهو ما قام الرئيس الفرنسي به فعلا تجاه إسرائيل في خطابه الشهير بعد الحرب، ولهذا انتقمت الموساد منه بعد ذلك في اضطرابات باريس عام 1968، و تعاونت مع المخابرات الأمريكية، التي نُشِر أنها موّلتْ قيادات طلابية وعمالية انتقاما من الجنرال الفرنسي على موقفه من الحلف الأطلسي ونشاطاته النووية.
وهنا أعود ثانية لدور المعلومات الاستخبارية التي جعلت الرئيس المصري نفسه يُحذّر القوات المصرية من هجوم إسرائيلي مباغت حدد يومه بل وساعته، وهو ما أكده لي شخصيا الملك الحسين بن طلال، موضحا أنه أعطى نفس المعلومة لناصر.
وهنا يمكن أن يُطرح أكثر من تساؤل عن عدم استعداد القوات المصرية لتلقى الضربة الأولى واستيعابها، على ضوء تجارب الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ذلك، تُركت الطائرات الحربية نائمة في العراء، تماما كما كانت المدمرات الأمريكية رابضة كالبط في خليج “بيرل هاربر”، حسب تعبير الأستاذ هيكل، مما سهّل على الطائرات اليابانية تدميرها (ولن أدخل هنا في جو الإشاعات التي تدعي أن القيادة الأمريكية كانت على علم بالهجوم، لكنه كانت تبحث عن “صدمة كهربائية” تبعد الشعب الأمريكي عن فكرة الحياد التي تحرم مصانع الأسلحة الأمريكية من خيرات هائلة تأتي بها المشاركة في الحرب العالمية الثانية).
ومرة أخرى، كيف يمكن أن يسمح لطائرة المشير أن تتجه إلى المنطقة الساخنة صباح 5 يونيو في مرحلة ملتهبة التوتر بما أدّى إلى شلّ طاقات الدفاع الجويّ “وتكتيف” قدراتها حماية للقيادة.
ولعلي ألاحظ هنا أمرا لم أفهمه إلا بعد زمن طويل، وهو وضعية السيادة على مضيق تيران الذي منع ناصر مرور السفن الإسرائيلية من خلاله، وهو مضيق كنا نعرف أنه مياه إقليمية مصرية بنص حديث الرئيس عبد الناصر في اجتماعه مع القوات الجوية قبل الكارثة بأيام معدودة، لكن مياه المضيق أصبحت اليوم مياها دولية نتيجة لما حدث من تطورات معروفة لا أخوض فيها، وهو ما يعني أن ناصر، الذي كان مدافعا عن مياههه الإقليمية في 1967 جعلناه أو “جعلوه” في القرن الجديد معتديا على المياه الإقليمية الدولية.
ولن أتوقف عن دور النزيف اليمني، الذي يبدو أن أصبح وكأنه لعنة بلقيس ملكة سبأ.
وقبل أن أنهي هذه الوقفة السريعة أعَلق على قارئ شقيق، لا يُخفي كرهه للرئيس المصري، قال بأن ناصر أضاع السودان، وهو مغالاة تنقصها الحكمة وتتجاهل منطق التعامل الدولي، ناهيك عن متطلبات الجوار الأخوي.
فقد استقل السودان لأن الشعب السوداني، بقيادة إسماعيل الأزهري زعيم الحزب “الاتحادي” اختار تقرير المصير، وهو حق ثابت لكل الشعوب لا يتجاهله إلا التوسعيون، وهو ما أدركه الرئيس ناصر وتصرف بشكل مشابه في سوريا إثر انفصال 1961، حيث أمر قواته بالاستسلام للقوات السورية وبعدم مواجهتها بالنيران حفاظا على وحدة هشّة، لست أريد اليوم أن أذكر من كان وراء تدميرها.
هذه كلمات برقية مختصرة جدا أقرب إلى الدردشة أردت منها تسجيل تأثري بذكرى رحيل قائد عظيم، أجتهد وأصاب وأجتهد وأخطأ، وأعتذِرُ عن كثير أخفيته مراعاة لتعليمات العزيزة مها باربار.
ولعلي أقتطف من أحلام مستغانمي استنتاجها الضمني لنتائج غياب قامات عربية من طراز عبد الناصر وبن بله وبو مدين وعبد الكريم قاسم والملك فيصل، وأضيف صدام حسين ومحمد الخامس وعبد الكريم الخطابي….وآخرين هم في ذمة الله ..
رحم الله رجالا….منهم من قضى نحبه ومنهم من يتنظر.
فالوطن العربي اليوم بدونهم وآخرين من مستواهم و في مرحلة محاق ونحو شتاء شبه لندني يخفي الضباب فيه تحركات ليست “أرثوذوكسية” بتعبير الجماعة هناك.
دكتور محي الدين عميمور كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق