د. حسن نافعة محذرا من سياسة “حافة الهاوية” في التعامل مع أزمة لبنان

جمعة, 2020-08-07 12:21

قال د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة إذا كانت علاقة حزب الله بإيران تثير مشكلات عديدة ولها انعكاسات سلبية على الوضع الداخلي في لبنان, فإن معظم التيارات والقوى اللبنانية الأخرى لديها ارتباطات عميقة بقوى إقليمية ودولية لا تتوافق مصالحها بالضرورة مع المصالح الوطنية العليا للشعب اللبناني والدولة اللبنانية.

وأضاف نافعة في حوار مع “رأي اليوم” أن لهذه القوى مصلحة واضحة في تصفية حزب الله أو على الأقل نزع سلاحه وإضعاف وزنه وتأثيره داخل المعادلة السياسية اللبنانية، مشيرا الى أن هذه القوى تدرك أن خسارة ترامب للانتخابات الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر القادم, وهو احتمال قائم, سوف يلحق ضررا كبيرا بمصالحها, فليس من المستبعد أن تحاول استغلال التطورات الداخلية اللبنانية الراهنة للانقضاض على حزب الله تمهيدا لتصفية وتغيير النظام الإيراني الحالي الذي ينظر إليه باعتباره رأس الأفعى.

نافعة يرى أن لا منجى للبنان إلا بالحوار بين اللبنانيين أنفسهم لتحقيق هدف واحد وهو إلغاء النظام الطائفي وتأسيس نظام يقوم على المواطنة وحقوق الانسان ودولة القانون مؤكدا أن هذا هو سبيل النجاة ليس للبنان فقط ،وإنما لكل الدول العربية التي توشك جميعها أن تتحول إلى دول فاشلة حسب قوله .

*ما تحليلك لما حدث في لبنان أخيرا.. الدلالة والتداعيات؟

التفجير الذي وقع في ميناء بيروت يوم الثلاثاء الماضي هو حدث كبير جدا وخطير جدا وسيكون له ما بعده, ولا أعتقد أنني أبالغ كثيرا إذا قلت إن لبنان بعد هذا الحدث الكبير والخطير جدا سيختلف كثيرا عما كان قبله.

 إذا حاولنا أن ننظر للحدث في حد ذاته فسوف نجد أنه ناتج إما عن إهمال جسيم, تسببت فيه أخطاء غير مقصودة تتعلق بسلامة الإجراءات المتعلقة بتخزين المواد المتفجرة أو بطول مدة التخزين أو بإجراءات الأمان المستخدمة..الخ, أو عن حادث إجرامي متعمد, وهو احتمال لا ينبغي استبعاده أيضا خاصة وأن هذه المواد المتفجرة تحتاج إلى صاعق يحتاج توفيره إلى تدبير متعمد أي إلى إلى عمل إرهابي.

 إذا كان الحادث قد نجم عن إهمال غير متعمد, فسوف تقع المسؤولية الجنائية في هذه الحالة على عاتق مسئولين مباشرين عن قرارات اتخذوها تتعلق بتخزين المواد المتفجرة لفترة طالت اكثر مما ينبغي, أو على عاتق مسئولين كان ينبغي عليهم إعادة هذه المواد إلى اصحابها الأصليين, سواء كانوا تابعين للجهة المصدرة أو المستوردة, وربما أيضا على عاتق مسئولين أهملوا في اتخاذ إجراءات التأمين والحماية التي كان يتفترض أن تتخذ عند تخزين مواد على هذه الدرجة من الخطورة وبالقرب من مناطق مأهولة بالسكان.

وقد تتشعب المسئولية الجنائية عند التحقيقات, حتى في سياق فرضية الإهمال غير المتعمد, لتصيب جهات وشخصيات تتبوأ مراكز رفيعة وحساسة في مواقع صنع القرار لكنها ليست بعيدة عن الشبهات وربما تكون ضليعة في قضايا الفساد التي تضرب بجذورها في عمق النظام السياسي اللبناني بأكمله, ومنذ زمن بعيد.

 غير أنه يتعين أن ندرك في الوقت نفسه أن لجريمة الإهمال هذه بعدا سياسيا ينبغي أن تتحمل مسؤوليته في هذه الحالة, حتى بفرضية أن ما حدث إهمال غير متوقع, مختلف الحكومات التي تعاقبت على الحكم في لبنان منذ تخزين هذه المواد المتفجرة عام 2014, وفقا لما ذكرته التقارير الصحفية, وحتى لحظة وقوع الانفجار يوم الثلاثاء الماضي.

 أما إذا تبين من التحقيقات, والتي ينبغي أن تكون على درجة عالية من الشفافية والكفاءة المهنية, أن الحادث وقع بفعل فاعل فستكون النتائج المترتبة عن الكشف عن هذا الفاعل أكثر خطرا وتأثيرا على مستقبل لبنان ككل, وسيكون لها تداعيات بعيدة المدى قد لا تقتصر على الجبهة الداخلية اللبنانية وحدها وإنما قد تمتد آثارها إلى الأوضاع الإقليمية والدولية, الأمر الذي يفسر المطالبات الملحة بتشكيل لجنة تحقيق دولية تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة أو جامعة الدول العربية. غير أنه يجب أن ننتبه هنا إلى مسألة بالغة الأهمية وهي أن هذا الحادث الخطير وقع في لحظة بدت فيها لبنان على وشك التحول إلى دولة فاشلة, بسبب عجز النظام السياسي القائم فيها عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه البلاد, وأيضا في لحظة بدا فيها كلا النظامين الإقليمي والدولي في حالة سيولة غير مسبوقة. لذا لا يستبعد أبدا أن يتم توظيف هذا الحادث سياسيا لإحداث خلط مقصود في الأوراق ودفع الأوضاع في اتجاهات معينة تريدها هذه القوة الدولية أو تلك أو هذه القوة الإقليمية أو تلك. وفي سياق هذا النوع من الرؤية الشاملة ينبغي أن نقرأ دلالة الحادث وتداعياته المحتملة.

*كيف قرأت رسائل ماكرون اليوم؟ ماذا وراء الأكمة؟

أظن أن ماكرون جاء إلى لبنان حاملا رسائل سياسية وأخرى إنسانية. رسائله السياسية هي في جوهرها نفس الرسائل التي كان قد حملها وزير خارجيته جون لودريان حين زار بيروت قبل هذا الحادث بأسبوع واحد, وهي رسائل سياسية يمكن تلخيصها في عبارة واحدة: إما الإصلاح وإما الهلاك, لكن السؤوال هنا: اي نوع من الإصلاح يريده ماكرون بالضبط ولحساب من؟ وعلى اي حال فقد حاول ماكرون أن يعيد صياغة هذه العبارة نفسها بعد الحادث, ولكن بأسلوب أكثر نعومة وباللباقة السياسية والفكرية التي عرف بها. ورغم أن ماكرون بدا في زيارته الخاطفة لبيروت وكأنه ينعي النظام السياسي اللبناني القائم ويعترف بسقوطه وفشله الذريع, وهو بالمناسبة نظام طائفي كانت فرنسا قد لعبت دورا رئيسيا في صياغته وفي تثبيت دعائمه, ومن ثم ذهب إلى حد المطالبة بوضع ميثاق تأسيسي جديد, وهي مطالبة تنطوي ضمنا على معنى الاعتراف بفشل وسقوط النظام اللبناني الحالي وعدم قابليته للاستمرار, ومع ذلك يلاحظ أن ماكرون كان واضحا جدا في تأكيده على أنه لا يستطيع كرئيس لجمهورية فرنسا أن يفرض على لبنان نظاما سياسيا بعينه، فالنظام الجديد المطلوب يجب ان يكون من صنع اللبنانيين أنفسهم وأن بتوافق مع إراداتهم.

 أما رسائل ماكرون الإنسانية فكانت مستوحاة من علاقة تاريخية خاصة تربط بين فرنسا ولبنان أراد التأكيد عليها وإعادة التأكيد على أن فرنسا لن تترك لبنان في وحده في هذه الظروف الصعبة ولن تدعه ينهار. لقد بدا ماكرون بزيارته هذه شديد الحرص على أن يكون هو بالذات أول رئيس دولة في العالم تطأ قدماه أرض لبنان, وحتى قبل أي رئيس عربي, وأن يكون هو أول من يواسي شعبه في المصيبة الكبرى التي حلت به. ولأنه يصعب فصل الرسائل الإنسانية عن الرسائل السياسية، فلا بد وأن نعترف هنا إن زيارة ماكرون هي محاولة واضحة لاستغلال حادث المرفأ بطريقة تمكن فرنسا من أن تحتل موقعا متقدما وأن يكون لها دور رئيسي في صياغة أجندة لبنان السياسية في المرحلة القادمة.

*برأيك من سيتقبل شروط ماكرون ومن سيرفضها؟

ماكرون ليس هو اللاعب الوحيد في لبنان, فإلى جانب فرنسا هناك لا عبون دوليون آخرون وكذلك لاعبون إقليميون لهم تأثير كبير على ما يجري في هذا البلد, وماكرون يدرك هذه الحقيقة جيدا ويدرك في الوقت نفسه وجود تداخل وتشابك وتقاطع بين أهداف هؤلاء اللاعبين الدوليين والإقليميينو وبالتالي ففرنسا جزء من عملية معقدة للتنافس الدولي والإقليمي على لبنان وعلى منطقة الشرق الوسط برمتها سوف تحسمها موازين القوى في النهاية.

 فعلى سبيل المثال, يدرك ماكرون أن إسرائيل والولايات المتحدة, ومن ورائهما السعودية والإمارات, يعملان كل ما في وسعهما لاستغلال الأوضاع الداخلية اللبنانية والأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة لتصفية حزب الله, أو على الأقل نزع سلاحه وإضعافه سياسيا, وربما يتمنى في أعماقه لو أمكن تحقيق هذا الهدف, لكنه يدرك في الوقت نفسه أنه لا يستطيع أن يتبنى هذا الهدف علنا، وإلا فقدت فرنسا الكثير من نفوذها في بعض الأوساط المسيحية. لذا فحساباته مرتبطة بتوازنات محلية وإقليمية ودولية دقيقة ومعقدة. ومن المعروف أن فرنسا لا تزال تقاوم ضغوطا أمريكية وإسرائيلية, وأحيانا أوروبية, لإعلان حزب الله منظمة إرهابية, ومع ذلك فهي تبذل محاولات حثيثة لاستغلال التطورات الحادثة في لبنان, بما في ذلك الحراك الشعبي الأخير, لإعادة تشكيل الحياة السياسية في لبنان بما يضمن تثبيت وتوسيع المصالح التاريخية الفرنسية في لبنان, وهناك قوى كثيرة في لبنان متجاوبة بطبيعتها وبحكم مصالحها مع الأطروحات الفرنسية، وأخرى أقل تجاوبا وربما تكون مهيئة للتصادم معها بدرجات متباينة، وثالثة ستفضل العمل على توسيع هامش المناورة أمامها حتى لا تدخل في صدام مباشر مع هذه الأطروحات, لكن المحصلة النهائية لما ستؤول إليه الحوال في لبنان لن يكون من صنع فرنسا وحدها.

*وأي سيناريو تتوقعه حال الموافقة عليها أو الصد عنها؟

سيكون هناك من يتفق مع الأطروحات الفرنسية إلى حد الحماس, كما سيكون هناك من يختلف معها إلى حد الصدام, لكن النتيجة النهائية ستكون في النهاية محصلة لتفاعلات قوى دولية وإقليمية عديدة تتنافس على الساحة اللبنانية ولكل منها تحالفاتها الداخلية أو المحلية. وفي تقديري أن من مصلحة القوى اللبنانية الرئيسية المتنافسة على الساحة أن تعطي الأولوية في المرحلة الراهنة لعمليات الإغاثة العاجلة وإصلاح الأضرار الهائلة الناجمة عن الحادث وتأجيل خلافاتها حول القضايا الاستراتيجية إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية التي ستكون لها انعكاسات هائلة على مجمل الأوضاع الإقليمية والعالمية.

*ما التأثير المنتظر لمجريات الأحداث في لبنان على الوضع في سورية, و كيف تتوقع رد الفعل الروسي؟

التأثير الروسي على الأوضاع في لبنان كان ولا يزال محدودا نسبيا, لكن روسيا تدرك أن ما يجري في لبنان سيكون له في النهاية تأثيرات ضخمة على الأوضاع في سوريا وعلى الأزمة المشتعلة فيها والتي لم تحسم بعد, ولأن روسيا هي اللاعب الرئيسي في سوريا الآن فستعمل كل ما في وسعها لكي لا تؤدي تطورات الأحداث إلى الإضرار بمصالحها الخاصة في سوريا. لذا أعتقد أن مطالب بعض القوى اللبنانية لإدخال تعديلات على دور وصلاحيات قوات اليونيفيل ولتوسيع دور الأمم المتحدة في الإشراف والرقابة على الحدود السورية اللبنانية أو ما شابه ذلك من مطالب سيقابل بالرفض الصارم من جانب روسيا، ولا أستبعد أن تحاول هذه الأخيرة استغلال تطورات الأحداث الأخيرة في لبنان لإيجاد موطيء قدم جديد يساعد على توسيع نفوذها في مواقع شرق اوسطية كانت تبدو حتى الآن عصية على النفوذ الروسي. بعبارة أخرى فليس من المستبعد أن تحاول روسيا استغلال ما يجري حاليا على الساحة اللبنانية لتوسيع نفوذها وتأثيرها في لبنان كما فعلت من قبل في سوريا وكما تفعل الآن في ليببيا.

*هل أتت لحظة تصفية الحسابات مع حزب الله من قبل الغرب وإسرائيل؟هل تعجل الحادثة الأخيرة بالمعركة الكبرى بين الغرب وإيران؟

في لبنان الآن قوى كثيرة ومؤثرة تعتقد أن حزب الله هو المشكلة وهو جذر الأزمة اللبنانية الراهنة لأنه هو المسيطر في المرحلة الراهنة على مفاصل النظام السياسي اللبناني, ومن ثم تعتبره العقبة الرئيسية التي تحول دون إجراء الإصلاحات السياسية المطلوبة. غير أن هذا الطرح فاسد من أساسه وليس صحيحا وليس علميا, فالنظام السياسي اللبناني يواجه مشكلات بنيوية معقدة, وهي مشكلات قائمة منذ فترة طويلة وسابقة في وجودها على نشأة حزب الله نفسه في بداية ثمانينات القرن الماضي. ويجب أن نتذكر هنا أن حزب الله لم يكن قد نشأ بعدُ حين اندلعت الحرب الأهلية في لبنان في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأن الجنوب اللبناني كان شبه مستعمرة إسرائيلية وأن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني تم بالتعاون مع قوى لبنانية وأن حزب الله هو الذي حرر الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في النهاية. صحيح أن علاقة حزب الله بإيران تثير مشكلات عديدة لها انعكاسات سلبية على الوضع الداخلي في لبنان, لكن معظم التيارات والقوى اللبنانية الأخرى لديها ارتباطات عميقة بقوى إقليمية ودولية لا تتوافق مصالحها بالضرورة مع المصالح الوطنية العليا للشعب اللبناني والدولة اللبنانية. ولا شك أن لهذه القوى مصلحة واضحة في تصفية حزب الله أو على الأقل نزع سلاحه وإضعاف وزنه وتأثيره داخل المعادلة السياسية اللبنانية.

 ولأن هذه القوى تدرك أن خسارة ترامب للانتخابات الأمريكية المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم, وهو احتمال قائم, سوف يلحق ضررا كبيرا بمصالحها, فليس من المستبعد أن تكون هذه القوى قد قررت العمل على استغلال التطورات الداخلية اللبنانية الراهنة للانقضاض على حزب الله تمهيدا لتصفية إيران التي ينظر إليها على أنها رأس الأفعى, لكنني أظن أن التفكير بهذه الطريقة ينطوي على خطأ كبير في الحسابات، ويدخل في إطار ما يسمى بسياسة الدفع نحو حافة الهاوية التي تنطوي على مخاطر كبيرة.

*وقع آلاف اللبنانيين مذكرة قدموها إلى الرئيس الفرنسي ماكرون لعودة الانتداب الفرنسي, كيف ترى هذا الأمر المؤسف؟ ما الذي أوصلنا إلى تلك المهانة؟

هو مشهد مؤسف لا شك, لكن علينا أن نقرأ دلالته قراءة صحيحة. فهو لا يدل في تقديري على حنين قطاع من الشعب اللبناني إلى فترة الاحتلال, أو على حب لبنان الجارف لفرنسا ولا يعني أن اللبنانيين اصبحوا اليوم يطالبون بعودة الانتداب أو الاستعمار فعلا, لكنه يدل على أن قطاعات عريضة من الشعب اللبناني, إن لم يكن الشعب اللبناني كله, فقد ثقته كليا ليس فقط بالطبقة الحاكمة ولكن بالأساس الطائفي للنظام اللبناني الحالي والذي لم يعد له ما يبرره, وأن الشعب اللبناني أصبح اليوم مستعدا لقبول اي خيار آخر غير استمرار هذا النظام, حتى ولو كان نظام الانتداب نفسه. هي إذن صرخة تعبير عن الغضب مما هو قائم وعن الرغبة في تغييره وليس بالضرورة حنينا للماضي الذي كان مؤلما ايضا.

*أخيرا كيف ترى سبيل النجاة في هذه اللحظة المصيرية؟

لا مخرج للبنان إلا بالحوار بين اللبنانيين أنفسهم لتحقيق هدف واحد وهو إلغاء النظام الطائفي وتأسيس نظام يقوم على المواطنة وحقوق الانسان ودولة القانون, وهذا هو سبيل النجاة ليس للبنان فقط ،وإنما لكل الدول العربية التي توشك جميعها أن تتحول إلى دول فاشلة. بعبارة أخرى يمكن القول أن العالم العربي كله, وليس لبنان فقط, اصبح في حاجة إلى منقذ. وغياب التأثير المصري على مجري الأحداث العربية أصبح محسوسا ومفتقدا وله تداعياته الخطيرة التي توشك أن تتحول إلى كارثية جماعية قد تنتهي بهدم المعبد على كل من فيه.

(رأي اليوم)