الدسترة..الإيجاز في الصواب!

اثنين, 2020-06-15 17:59

في مكتب التصويت بقريتنا، يوم الاستفتاء الثاني عشر يوليو 1991، تولى رجلان أعرفهما التصويت نيابة عن المسجلين. كان الإقبال ضعيفا في مقتبل النهار، ولم يلبثوا غير قليل حتى استغنوا عن الحضور والمصوتين. فكان رئيس مكتب التصويت ينادي باسم المسجّل على اللائحة، فيقوم أحد الرجلين بالتصويت نيابة عنه وب(نعم). وأنهوا عملهم هذا قبيل أن تنتصف الشمس في كبد السماء. وكان ما يهمنى أنا وأقراني، ونحن صبية، في هذا اليوم هو جمع أكبر عدد من بطاقات الاستفتاء؛ والتي لم نحصل منها إلا على بطاقات (لا) البرتقالية؛ فبطاقات (نعم) الخضراء الغالية أودعت الصندوق الخشبي في تحد سافر لكل ضوابط الشفافية والنظام والانتخاب.

لا أعرف تحديدا ما الذي حدث في المكاتب الأخرى على عموم البلد! لكنني متيقن أن ما حصل عندنا هو حال موريتانيا كلها في ذاك اليوم! والجميع يعرف كيف ألحقت المادة 104 بنص الدستور بعد أسبوع على الاستفتاء. واعتماد دستور مع هذه الخروق البينة الواضحة كأساس دستوري لا يمسه التبديل ولا التغيير أقل ما يقال عنه إنه ازدراء للشعب، وامتهان له، وتحقير به. فالشعب لم يكن له أي صوت ولا إرادة في هذا المسار المعوج، والذي لم يحترم الإجراءات المطلوبة؛ وأول عمل صالح هو إلغاء هذا الأساس الدستوري وكتابة دستور جديد على أسس دستورية صائبة وصلبة بإشراك الجميع ومن أجل الجميع.

الدستور وثيقة سياسية تشتمل مبادئ عامة للحكم وطبيعته والمؤسسات الدستورية والعلاقة بين السلطات الثلاث، لكن يلزم أن تكون هذه الوثيقة موجزة؛ إيجاز صواب ومعان، ولا تستغرق في التفاصيل. لست خبيرا دستوريا ولا حتى قانونيا. ولكن من المناسب أن نتذكر أن دستور الولايات المتحدة والذي هو أقدم دستور مكتوب يحتوى على ديباجة قصيرة وسبعة مواد لا أزيد. وقد قاموا ببعض التعديلات على هذه المواد السبعة وهي تبلغ في مجموعها من يوم كتابة الدستور في 1788 حتى هذه اللحظة؛ أي في مدة قرنين ونيف وثلاثين سنة، سبعا وعشرين (27) تعديلا.

موريتانيا دولة صغيرة ولا تحتاج لدستور برنامج كما يقول أحد الفقهاء الدستوريين، ولا دستور بحجم كتاب كدستور 91 المعدل (ومن المناسب التذكير أن دستور الولايات المتحدة الأمريكية بمواده السبع (9) صفحات، وبتعديلاته السبع والعشرين (7) صفحات أي مجموع النص (16) صفحة). يكفي مواد قليلة في حدود العشرة عن طبيعة الحكم والعلاقة بين المؤسسات مع صلاحيات واسعة للرئيس، وإلغاء كل ما يقيده أو يضعفه؛ فالنظام الرئاسي هو الذي يناسب البلد، وغيره دعوة مفتوحة إلى فضاء من الفوضى واللغط والضعف. وبرلمان بغرفة واحدة مع التشديد على تقليل النواب وإلغاء لوائح الاسترضاء والعبث كاللائحة الوطنية ولائحة النساء والاقتصار على نواب الدوائر.

ربما الوقت غير مناسب للحديث في مثل هذا الموضوع، نظرا لحال الطوارئ الصحية، والتي نتمنى أن يخرج منها البلد سريعا إن شاء الله بأقل الخسائر. لكنني أتمنى على رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، حينما يكون الوقت مناسبا والظرف ملائما، أن يقوم إلى هذا. سيقول البعض إن هذه دعوة غير دستورية. ويتباكون على الدستورية؛ وكأننا في وضع دستوري، وأن دستور 91 بتعديلاته هو دستور عمريّ وضع بأعلى معايير العدل والإنصاف والشفافية. 

على السيد الرئيس والذي أثق في قدرته وتميزه وحبه للوطن أن لا يلتفت إلا إلى المصلحة العامة؛ والمصلحة العامة تقتضي، من بين أمور أخرى، أمرين هامين: تنمية البلد واستقراره. والأول مرتبط بالثاني ولا يصح إلا به. والاستقرار السياسي هو الذي يمكن من بناء الدولة وتنميتها، وإذا لم يك هناك، فليس هناك من إمكانية لأي تنمية ذات قيمة. 

والدستور بنسخته الحالية لا يضمن استقرارا سياسيا ولا بناء ديمقراطيا صلبا. ليس المهم التنظير والتأنيق والإطناب والتفصيل في وثيقة دستورية. وهذا لا يضمن احترامها؛ والشواهد عديدة على هذا! فكلما وجد متوثب قدرة أو تهيئا لن يعجزه التمنطق وإيراد الحجج التي تؤيد روايته. ما يضمن احترام الوثيقة هو أن تؤسس تأسيسا دستوريا صحيحا، وأن تأخذ المسار الدستوري السليم وأن تشارك القوى السياسية والنقابية والمجتمعية في وضع وثيقة دستورية موجزة. ولا تستغرق في التفاصيل؛ الاستغراق في التفصيل مفسدة وقتل  لكل مراجعة مستقبلية منطقية تقتضيها أي وثيقة دستورية مرنة، نظرا لضرورة وحتمية التطوير والتحديث في كل عمل بشري؛ وهو ما يضمن بقاء الوثيقة الدستورية سليمة ووفية لنصها الأول من غير الحاجة إلى الإلغاء أو التعطيل. 

ما الحكمة البالغة في أن يتضمن الدستور، وهو الوثيقة المرجعية للأمة، تفاصيل عن العلم والشعار وكيفية تموضع الألوان ونسبتها، وكيفية انتخاب رئيس الجمهورية وآجال ذلك وصيغه؟ هذا يترك إلى أوامر ومراسم تنفيذية ولا حاجة أن يدون في الوثيقة الدستورية، وفي الدستور الأمريكي لا كلمة عن العلم أو الشعار أو إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية؛ لأنهم لا ينشغلون بالتفصيل غير الضروري ويكتفون بالأهم والضروري. وهذا ما علينا أن ننتهجه! 

سيد أحمد أعمر محّم
إعلامي وكاتب