نتوقفُ عند السبتِ الذي بدأت في فجرهِ الحرب و الجمعة الفضيلة التي قبل شروق شمسِها توقفت، ولو لبرهة. نسألُ عن معنى اليوم لنا و لهم.
لم يذكر القرآن قوماً امتحنَ اللهُ إيمانهم كما يهود السبت الذين أُمِروا أن لا يصيدوا يوم السبت. وكان اللهُ يبعثُ الأسماكَ بكثرةٍ ملفتةٍ ذاكَ اليوم و يمنعها عنهم باقي الأيام. الأمرُ لم يكن لتفقيرهم و تجويعهم بل لامتحان صبر إيمانهم. تحايلوا على الله فكان عقابهم المسخ. و كانوا فئتين، فئةٌ تحايلت فمُسِخت و فئةٌ تحملت فأُثيبتْ. فأتـى العذاب الفئة الأولى يوم سبتها. كما اليوم هم فئتين. فئةٌ مُتَجَبِّرَةٌ و فئةٌ مُنذهلةٌ مُنكِرةٌ للتجبر من بني جلدتهم. تراهم اليوم في أمريكا يقولون “ليس بإسمنا” ويعنون للفئةِ القاتلة أنهم ليسوا معهم. وتراهم يظهرون إعلامياً لتفنيد نظرية و ممارسة العنصرية الصهيونية و تراهم بملابس الدين يتظاهرون ضد الصهيونية. لم يكن اختيار السبت 7 تشرين أول/أكتوبر عبثاً. لقد أتى في موجعٍ عقائديٍّ كما في بنيةٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ. لقد كان لِيُبَيِّنَ وجود الفئتين، والأهم، دليلَ الصراع العقائدي الديني.
وكذلك الجمعة 24 تشرين ثاني/نوڤمبر. كانت الأخبار تتكلم عن بدء الهدنة يوم الأربعاء ليلاً ثم الخميس ثم استقرت على السابعةِ صباح الجمعة، الحادي عشر من جمادى الأول 1445. رمزيةَ يوم الجمعة لا تخفى على أحد، و مما يدركه العدو على مضض أن الهدنة تبدأ بيومٍ هو لدى المسلمين مبارك اختارته المقاومة مثلما اختارت يوم المعركة وفي اليومين معانٍ عميقةٍ لمن يقيس الصراع كما يجب. وما يجب هو عدم المناورة في رمزية اليومين و لا في أصل الصراع الديني.
الصهيونيةُ حركةٌ استعماريةٌ بدون شكٍّ لكنها لم تستعمر فلسطين للمزايا الجغرافية لفلسطين، وهي مزايا فائقةَ الفائدة، ولكن للهدف اليهودي الوجودي لإعادة اليهودية سيفاً مسلطاً في فلسطين ومن النيل للفرات، و عبر هدم المسجد الأقصى و قبة الصخرة و بناء هيكل سليمان مكانهما رمزاً لهذه السطوة و السيطرة. ليس في هذا جغرافيا بل تاريخٌ من الحقد تؤكده الممارسات العنصرية. لذلك لا ينبغي للسياسي الفلسطيني والعربي التعامل مع الصهيونية إلا من باب أنها عدوٌّ دينيٌّ. و لا ينبغي اللغو في الهدف الذي نريد أن نحققه و هو دولةٌ واحدةٌ عربيةٌ اسمها فلسطين بحدودها التاريخية وشعبها ذو الأغلبية الساحقة العربي الفلسطيني والتي تتسع لليهود إن أرادوا بلداً لهم فيه حرية الديانة و الممارسات الاعتيادية للمواطن دون فكرٍ استعماري و لا مطامع. هذا هو الحد الأدنى و ليس أدنى منه شيئ. أما الحد الأعلى من هذه الدولة فهو لنا وللعرب أن نقرره طالما تحررت فلسطين بالكامل.
إن خشيةَ بل رُعبَ العرب من التمسك بهذا الحق لا مبرر له مطلقاً. يُشكَرُ المقاوم الفلسطيني من غزة لإثباتِ أن الصهيونية هي كما قال السيد حسن نصرالله أوهن من بيت العنكبوت. إنها لم تستطع المواجهة مقابل حركةٍ مقاومة. حتى بقصفها بالذخيرة الذكية المُوجهة عن بُعد التي مسحت أحياءً كاملةً. لم تستطع إلا أن ترضخ لهدنة. فماذا لو رُفعَ السقف العربي للمطالبة بزوال كيان الصهيونية؟ مطالبةٌ معززةٌ بالقوة التي يمتلكها العرب. لو فهم العرب كيف أعادَ الطوفان لهم قوةً يتجاهلونها.
لكن العرب و أعني الدول المؤسسات لا يريدون الإقرار بهذه القوة التي يمتلكونها، و لا الاعتراف بالضعف الصهيوني رغم ترسانة السلاح الصهيونية. الحقيقة أن العرب الدول المؤسسات هي أبعدَ ما يكون، باختيارها و قناعتها النائية عن المنطق، عن فهم مغزى السبت والجمعة وأقربَ ما يكون لتفضيل البقاء في “جنَّةِ” الاستقرار الخاضع للمنح و القروض و التباهي بالثراء مع تعطيل قدرة و مكامن القوة لديها. حال العرب الدول المؤسسة اليوم لا يزال ضعيفاً و صغيراً و معها أحدث الأسلحة. والمقاومُ كبيرٌ و قويٌّ و لو كان حذائهُ في القتال نعلاً مقطوعة. لذلك فإنَّ الترويج العربي اليوم “لما بعدَ الغد” يستمدَّ أطروحاتهِ من العجز الاختياري. كل ما يُقال عن “دولة” فلسطينية منزوعة السلاح أو غزةَّ تحت وصاية و ضمانات أمنية أو امتداد السلطة الفلسطينية لغزة و بالطبع كل ما يُقال عن “مسح” المقاومة في غزة هو في الحقيقة محض هراء. الواقع أن المقاوم يمتد من غزة لباقي فلسطين. و هذا ليس امتداداً بالمعنى العسكري لوحدهِ بل بالمعنى المؤسسي الوطني المقبل بتصميمٍ و إيمانٍ على تقويض الكيان الصهيوني و استبدالهِ عَدْلاً حتمياً بدولةٍ فلسطينية.
لو انتقلنا للمشهد اليمني واللبناني لأدركنا حجم القدرة العربية التي تمتلكها حركات تستطيع بها اختراق المحظور عالمياً. و ليعذرني من يعتبر حكومة صنعاء حكومةً و ليس حركةً و من لا يعتبرها إلا حركةً إرهابيةً فاليمن اليوم مُثْقَلٌ بحكومات لكن “الحوثي”، بالتعبير الشائع، يضع بَصْمَتَهُ من أم الرشراش و بطول البحر الأحمر و باب المندب. نُصْرةً لفلسطين. و “الحزب” في الجنوب اللبناني/الشمال الفلسطيني قد أعْمَىٰ و صَمَّ عيون و آذان رقابة صهيونية تمتد لمئات الكيلومترات داخل و حول المنطقة و أخْلَىٰ الشمال الفلسطيني من المستعمرين. ثم هناك الزخم الشعبي الذي طالَ الصِبية والشباب في بلاد العرب قبل “الختايرة” و هو زخمٌ ملأَ القلوب و العقول و يُبَشِّرُ بأجيالٍ مقاومة. هم فهموا مغزى السبت و الجمعة. الأمرُ لا يحتاج سوى الإيمان. “إن تنصروا اللهَ ينصركم”. في المقابل المذهل ترى العربي الرسمي يختار الكلمات خوفاً من إزعاج العالم و يُصِّرُ على الدولتين و يلتزم بالمعاهدات و يتمنى اختفاء حكومة اليمين الصهيونية آملاً بحكومةٍ وديعةٍ. و كأن هذا السياسي العربي يعيش في عالم “أليس ببلاد العجائب” و استمتع حتى أُشْرِبَ “باربي” في قلبه. هو نفس السياسي الذي يبكي أمام الكاميرات استدراجا ذليلاً للعطف. “ما بعد الغد” ليس لهذا السياسي بالقطع بل لذلك الصقر الذكي الذي بعون الله مسخ في السبت ورحم في الجمعة.
علي الزعتري دبلوماسي أُممي سابق