
من أبرز عناوين قمة “الناتو” الأخيرة في لاهاي زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي للأعضاء، فيما أطلق الأمين العام مارك روته على الرئيس ترامب وصف Daddy “دادي” (الأب).
جاء ذلك بينما وصف ترامب، بخفته السياسية المعتادة، الحرب الإسرائيلية الإيرانية بأنها “عراك بين صبيين في مدرسة”، وقد تركتهما الولايات المتحدة ليتعاركا بعض الشيء، ثم تدخلت “بالضربة القاضية” لتنهي هذا “العراك”، ليعلق الأمين العام للحلف “ثم على Daddy أن يتدخل بلهجة القوة”!
كان الأمر ليبعث على المرح والخفة والضحك إذا لم يكن يتعلق بأرواح البشر، وبقيادات سياسية وعسكرية وعلماء ومدنيين اغتالتهم يد التطرف الإسرائيلي، وبمليارات ربما تريليونات الدولارات التي دمرتها الولايات المتحدة بضرباتها ضد المنشآت النووية الإيرانية وضد البرنامج النووي الإيراني السلمي، وكأن أحدا في المنطقة لا يحق له التقدم والتطور سوى إسرائيل، ومن يتمكن من أن يعبد طريقا مستقلا للتنمية محكوم عليه بالتدمير والاغتيال.
لم تكن قضية أوكرانيا من بين أولويات “الناتو” في هذه القمة، حيث لم تعقد جلسة عمل منفصلة مخصصة للصراع الأوكراني، لكن الأمين العام روته أكد على أن الدول الأوروبية سوف تستمر في دعم أوكرانيا، وكان من الملفت ألا يتضمن البيان الختامي إدانة لروسيا كما كان في السابق، برغم اعتبار روسيا “تهديدا طويل الأمد للأمن الأوروبي الأطلسي”.
لم يفت روته أيضا أن يحرص على أن يؤكد فكرة أن “طريق أوكرانيا نحو الحلف لا رجعة فيه”.
لكن ترامب “المنتصر” الذي بدت عليه نشوة الانتصار الوهمي الذي حققه خلال “حرب الـ 12 يوما” بضرباته “الساحقة الماحقة” ضد المنشآت النووية الإيرانية، ووقف إطلاق النار التالي بين إسرائيل وإيران، كان كمن انتهى من مقبلات الطعام ويستعد لتناول الوجبة الرئيسية: الأزمة الأوكرانية الروسية.
إنها الأزمة التي وعد، وهو على شاطئ البحر السياسي الهائج متلاطم الأمواج، أن ينهيها في 24 ساعة لا أكثر، ليجد بعد انخراطه في المحادثات أنها أعقد وأعمق وأصعب من أن تحل في 24 سنة. فالروس يقولون إن الأزمة ليست مع أوكرانيا، ولا بد من علاج المرض لا العرض، ولا بد من علاج جذور الأزمة لا الطفح الجلدي الذي نشأ في السنوات الأخيرة بالانقلاب الأخير عام 2014.
وجذور الأزمة هي في نهاية المطاف تمدد “الناتو” شرقا، تسعينيات القرن الماضي، انتهاء بوصوله إلى أوكرانيا الخط الأحمر للأمن القومي الروسي، وهو ما يعني أن كلمات السيد روته بشأن طريق أوكرانيا نحو الحلف الذي “لا رجعة فيه” لا تعدو كونها كلمات خاوية من المضمون، لأن أحدا في روسيا لن يقبل بهذا الطرح ولا هذه الفكرة بالأساس.
إنه من أجل هذه الفكرة تحديدا بدأت روسيا عمليتها الخاصة في أوكرانيا للحد من تمدد “الناتو” شرقا، بعد عشرات المناورات، ونصب البنية التحتية العسكرية لـ “الناتو” على أراضي أوكرانيا، وقبلها بعقدين وضع أسس العقلية الغربية داخل عقول نسبة كبيرة من الشباب والشابات الأوكرانيين حتى يتسنى في المستقبل إضرام النار في ثورة ملونة تطيح بسيادة الدولة ووحدة أراضيها، وتطعن العرق السلافي والأخوة الروسية الأوكرانية في مقتل على النحو الذي كان في انقلاب 2014 وما تلاها من 8 سنوات انتهت باندلاع العمليات القتالية بين أبناء العرق الواحد والعقيدة الواحدة والتاريخ والمصير الواحد.
يبدو أن كثيرا من الزعماء الغربيين، أعتقد أن على رأسهم ترامب شخصيا، لم يكونوا على علم بتلك الأجزاء الدقيقة لجوهر الأحداث التي تورطوا بها، وأعمتهم الكراهية لكل ما هو روسي، واعتقدوا، وربما لا يزالوا يعتقدون أن روسيا هي روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي وأيا كان المسمى لهذا الكيان الضخم في أوراسيا، الفزاعة الرهيبة التي يتعين حشد الشعوب الأوروبية ضدها من أجل “ضمان أمان القارة الأوروبية”. ولم يكن اتخاذ السياسة الخارجية الأوروبية بشأن أوكرانيا إلا في إطار هذا المخطط الخبيث ضد روسيا كرأس حربة وقفاز يمكن التخلص منه بعد أداء المهمة.
بمرور الوقت، وبينما يدرك الشعب الألماني والفرنسي والإيطالي، وبينما تدرك أوساط الأعمال والصناعات الألمانية والأوروبية بصفة عامة ما اقترفته القيادة السياسية برعونة، وأدت إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بهذه الدول جراء هروب الصناعات إلى حيث موارد الطاقة الرخيصة، بعد التخلي عن موارد الطاقة الروسية الرخيصة المستدامة، بمرور الوقت سيعرف الأوروبيون العدو من الصديق، وسينتخبون قيادات تعبر بالفعل عن مصالحهم لا عن مصالح واشنطن.
ليلة أمس، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مكالمة هاتفية مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد مرور ما يقرب من ألف يوم على التواصل الأخير بين الزعيمين، وهو أمر جد خطير ألا يكون أعضاء مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على تواصل دائم.
في المكالمة أكد الرئيس بوتين على العلاقة السببية المباشرة بين ما يحدث في أوكرانيا وما تبناه الغرب من سياسات تسعى لتحويل أوكرانيا إلى منصة معادية لروسيا: “إن النزاع الأوكراني هو نتيجة طبيعية لسياسات الدول الغربية التي تجاهلت لسنوات مصالح الأمن الروسي، وحولت أوكرانيا إلى بؤرة معادية لروسيا، وتغاضت عن انتهاكات حقوق السكان الناطقين بالروسية”.
وشدد الرئيس على أن أي تسوية للأزمة الأوكرانية يجب أن تكون شاملة، وأن تعالج الأسباب الجذرية وتستند إلى الوقائع الميدانية القائمة.
أعلنت وزارة الدفاع الروسية يوم أول أمس عن تحريرها الكامل لجمهورية لوغانسك الشعبية، وهي في طريقها لاختراق الدفاعات الأوكرانية والتقدم في أماكن أخرى لعبور نهر “دنيبر”، وهو ما يبشر بهزيمة ساحقة للجيش الأوكراني، وبتقسيم واضح المعالم لأوكرانيا.
أتصور أن شعور الدول الغربية بقرب الهزيمة التي ستلحق بهم هو ما يدفع الرئيس الفرنسي للمبادرة بالحديث إلى الرئيس الروسي، وأتصور أن لقاء قريبا بين الرئيسين بوتين وترامب سيجري ليحدد معالم المرحلة المقبلة، وإرهاصات النظام العالمي الجديد الذي يجب أن تشارك في بنائه دول الجنوب العالمي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتجد لنفسها موطئا في مجلس الأمن الدولي بالأمم المتحدة.
إن الأزمة الأوكرانية، مع تأثيرها السلبي وكل ما يحيط بها من تداعيات، هي ملف ضمن ملفات، وقضية من قضايا ملتهبة حول العالم، لعل آخرها ما طالعناه من أزمة في الشرق الأوسط كادت تتحول إلى حرب شاملة لا زالت أجواءها تلوح في الأفق. لذلك فإن حل الأزمة الأوكرانية لا بد وأن يسلط الأضواء على أزمات كثيرة حول العالم في كوريا وتايوان وأذربيجان وأرمينيا ومولدوفا وصربيا وجورجيا والسودان وليبيا واليمن وسوريا، وهي أزمات يتعين النظر إليها بحكمة ورشد، بعيدا عن المؤامرات التي طالما حاكها الغرب لإسقاط الأنظمة وزرع العملاء والجواسيس وإشعال الفتن الطائفية والحروب الأهلية.
يتعين على أوروبا، في الذكرى الثمانين لهزيمة النازية، أن تتخلص من الهاجس الروسي والفزاعة الروسية مرة واحدة وللأبد، وينبغي على القادة الأوروبيين أن يعودوا إلى كتب التاريخ ليتعلموا أن روسيا جزء من أوروبا، وحصن أمان لأوروبا لا تهديدا لها. هكذا كانت ودائما ستكون.
رامي الشاعر كاتب ومحلل سياسي فلسطيني