تمرد فاغنر وصراع الإرادات في الحرب الدائرة في وسط شرق أوروبا... النظام العالمي الأحادي وقواعده في امتحان قوة وجودي

أربعاء, 2023-06-28 04:23

خلال حوالي 24 ساعة من ليلة يوم الجمعة السبت 23-24 يونيو 2023 حبس جزء كبير من العالم أنفاسه وهو يتابع أخبار التمرد المسلح في روسيا الذي قاده مؤسس شركة مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، يفغيني بريغوجين. 

كما يحدث بالنسبة للكثير من الأحداث خاصة ذات الأبعاد الكبيرة محليا أو دوليا، كان هناك من رحب وسعد واستبشر بهذا الحدث وانتظر أو توقع تطوره في اتجاه زعزعزة استقرار ووحدة روسيا، وهناك من على النقيض من ذلك خشي من أن يكون التمرد بداية أحداث أخطر وأوسع تقود إلى انهيار روسيا كدولة عظمى وتفككها إلى دويلات متطاحنة وبالتالي حسم الصراع حول تشكيل عالم متعدد الأقطاب ونظام دولي وقواعد جديدين، أي انتصار الغرب على منافسيه وتحقق فكرة ونبوءة القرن الأمريكي و نهاية التاريخ.

اشتهر المفكر فوكوياما بكتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” عام 1992، الذي ظهر على الساحة مع انتهاء الحرب الباردة. كان تقدير فوكوياما الأساسي هو أن الديمقراطية الليبرالية قد انتصرت في حرب الأفكار وأثبتت نفسها كنظام سياسي مثالي لن يكون بعده.

زبغنيو بريغينسكي وهو مفكر ومستشار سابق للأمن القومي الأمريكي، ينحدر من أصل بولندي، يعتبر من المنظرين السياسيين المعاديين للشيوعية، علق عطفا على البروفيسور صموئيل هنتغتون الذي تساءل، "هل ما تمر به أمريكا اضمحلال أم تجديد؟ وإنتهى في جوابه إلى القول بأن "القوة الأمريكية هي قوة متعددة الأبعاد، أما القوى المنافسة لها فهي قوى ذات بعد واحد".

مع نهاية يوم السبت 24 يونيو 2023، انتهى التمرد وعادت الأمور إلى الاستقرار وتواصلت المواجهة العسكرية بين روسيا وحلف الناتو في وسط شرق أوروبا مع تصاعد إقرار الجزء الأكبر من الخبراء والمحللين سياسيين وعسكريين بأن حلف الناتو لا يكسب المعركة على الأقل في التوقيت الحالي.

خلال الربع الأول من سنة 2023 أفادت تقارير المخابرات المركزية الأمريكية أن تعداد قوات مجموعة فاغنر يتراوح بين 50 و 60 ألف فرد ثلثاهم يمكن أن يكونون متوفرين للقتال أم الثلث الباقي فهو كالعادة في كل الجيوش والتنظيمات المسلحة مكلف بالإمداد والإسعاف والصيانة وما شابه. التقديرات الأمريكية والفرنسية وعلى ضوء الصراع على النفوذ في القارة الأفريقية قدر تعداد فاغنر في القارة السمراء بما بين 12 ألف و 15 ألف، يبقى على الأراضي الروسية ما بين 35 و 45 ألف فرد. يفغيني بريغوجين وعند إعلانه عن التمرد وزحفه ذكر أن لديه 25 ألف مسلح. هذه الأرقام والتقديرات ستسهل التحليل حول الأحداث الجارية.

هناك حاليا مع نهاية شهر يونيو 2023 اختلافات في التقديرات حول من عرف ومن توقع ومن ساهم ومن صدم الخ .. من هذا التطور.

في العاصمة الأمريكية واشنطن وعبر وسائل رسمية ذكر: شكل التمرد المباغت لقائد مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، أخطر وأكبر تحد واجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الداخل على مدار 23 عاما قاد خلالها روسيا، فيما كشف خبراء لموقع "الحرة" عن "تداعيات كبيرة" لاضطرابات استمرت لنحو 24 ساعة فقط.

وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اعتبر يوم الأحد 25 يونيو، أن تمرد قائد مجموعة فاغنر، يكشف وجود "تصدعات حقيقية" على مستوى سلطة الرئيس الروسي. وأكد بلينكن في تصريحات لشبكة "سي بي اس" الأمريكية أن تمرد قائد فاغنر "شكل تحديا مباشرا لسلطة بوتين"، وتابع "يثير هذا الأمر تساؤلات كبرى، ويظهر وجود تصدعات حقيقية".

وأضاف لا نملك المعلومات الكاملة بشأن ما حدث، ولا يزال الأمر مبكرا، ولا نعتقد أننا وصلنا للمشهد الأخير في روسيا، ومن المبكر الحديث عن مستقبل مقاتلي فاغنر".

بلينكن قال كذلك إن الاضطرابات التي نجمت عن التحدي غير المسبوق لسلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مقاتلي مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة لم تنته بعد على الأرجح وقد تستغرق أسابيع أو شهورا.

وأفاد بلينكن في سلسلة من المقابلات التلفزيونية إن التوتر الذي أدى لتمرد القوات التي يقودها يفغيني بريغوجين، وهو تمرد تم إجهاضه، كان يتصاعد منذ أشهر وإن تلك الاضطرابات قد تؤثر على قدرات موسكو في أوكرانيا.

وصرح بلينكن لبرنامج "ميت ذا بريس" على شبكة "إن.بي.سي": "تركيزنا ينصب بلا هوادة وبتصميم على أوكرانيا لنتأكد من أن لديها ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها واستعادة الأراضي التي احتلتها روسيا".

كما قال لبرنامج "ذيس ويك" على شبكة "إيه.بي.سي" إن تلك الاضطرابات "لو وصلت إلى الحد الذي يجعل الروس في حالة من التشتت والانقسام فقد يجعل ذلك من مواصلتهم للعدوان على أوكرانيا أكثر صعوبة". وقال بلينكن إن الوضع النووي للولايات المتحدة ولروسيا لم يتغير نتيجة للأزمة الأخيرة.

في كييف أعرب مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخائيل بودولاك، عن خيبة أمل حكومته ما إن بدأ مقاتلو شركة "فاغنر" مغادرة أراضي مقر المنطقة العسكرية الجنوبية والمناطق المجاورة لها. وكتب بودولاك على "تويتر": "الخيار الشاذ لبريغوجين... كنت على وشك القضاء على الرئيس الروسي بوتين، وتسيطر على السلطة المركزية، لقد وصلت إلى تخوم موسكو وفجأة ... تتراجع".

 

بين الكذب والحقيقة

 

يوم الأحد 25 يونيو وعلى صفحات موقع الحرة الأمريكي ذكر:

في منتصف مايو 2023، رصدت أجهزة الاستخبارات الأمريكية مؤشرات على أن رئيس مجموعة "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، كان يخطط لعمل مسلح ضد وزارة الدفاع الروسية، التي اتهمها منذ فترة طويلة بإفشال الحرب في أوكرانيا.

وأبلغت الاستخبارات البيت الأبيض والوكالات الحكومية الأخرى بذلك، حسبما قال العديد من المسؤولين الأمريكيين، لصحيفة "واشنطن بوست"، يوم السبت 24 يونيو.

والأربعاء، أطلع مسؤولو المخابرات الأمريكية، كبار المسؤولين العسكريين والإداريين، بمخططات قائد مجموعة فاغنر، وفقا لما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين مطلعين على الأمر.

وأفاد مسؤولون إنه تم إطلاع كبار المسؤولين في البنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس خلال الأسبوعين الماضيين على المعلومات الاستخباراتية.

وذكرت شبكة "سي إن إن" في وقت سابق أن المسؤولين قد أطلعوا قادة الكونغرس على مخططات بريغوجين، الأسبوع الماضي.

وذكر مسؤولون أمريكيون إن الطبيعة والتوقيت الدقيق لخطط قائد "فاغنر" لم تتضح إلا قبل وقت قصير من "استيلائه المذهل" على مقر القيادة العامة العسكرية في روستوف، جنوبي روسيا، وتحرك قواته نحو العاصمة، موسكو، يومي الجمعة والسبت.

وقال مسؤول أمريكي تحدث لواشنطن بوست شريطة عدم الكشف عن هويته: "كانت هناك إشارات كافية لإخبار القيادة ... أن شيئا ما قد حدث، لذلك أعتقد أنهم كانوا مستعدين لذلك".

وصرح المسؤول إنه، خلال الأسبوعين الماضيين، كان هناك "قلق كبير" بشأن ما قد يحدث، وما إذا كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيبقى في السلطة، وتأثر إمكانية حدوث اضطرابات على الترسانة النووية الروسية.

وذكر مسؤولون أن عدم الاستقرار الذي قد ينجم عن "حرب أهلية" روسية كان الخوف الرئيسي.

وتظهر المعلومات أن الولايات المتحدة كانت على علم بأحداث وشيكة في روسيا، على غرار الطريقة التي حذرت بها وكالات الاستخبارات، أواخر عام 2021، من أن بوتين كان يخطط لغزو أوكرانيا، حسب "نيويورك تايمز".

ووقتها رفع المسؤولون الأمريكيون السرية عن المعلومات الإستخباراتية ثم أطلقوها لمحاولة ردع بوتين عن الغزو، لكن هذه المرة التزمت وكالات الاستخبارات الصمت بشأن خطط قائد فاغنر.

وشعر المسؤولون الأمريكيون أنهم "إذا قالوا أي شيء، فقد يتهمهم بوتين بتدبير انقلاب"، ومن الواضح أنهم لم يكونوا مهتمين بمساعدة الرئيس الروسي على "تجنب الانقسام الكبير والمحرج".

وفي إضافات تظهر كجزء من مسلسل سينمائي غير متناسق أو مترابط من إخراج هوليود إمبراطورية صناعة السينما، قال مسؤولون أمريكيون تحدثوا لصحيفة الواشنطن بوست- ولم تذكر أسماؤهم- أنه على عكس ما حدث في الحرب الروسية على أوكرانيا، حين رفع المسؤولون الأمريكيون السرية عن المعلومات الاستخباراتية، التزمت أجهزة الاستخبارات الصمت مع خطط بريغوجين الملقب بـ"طباخ بوتين".

وأضافت الصحيفة أنه "تم اعتبار المعلومات التي تفيد بأن الخلاف المرير بين بريغوجين، ومسؤولي وزارة الدفاع الروس، خطيرة ومثيرة للقلق، إذ يعرف بريغوجين بوحشيته، ولو أنه نجح في إطاحة المسؤولين لكان على الأغلب زعيما يصعب التكهن بتصرفاته".

كذلك خشي المسؤولون من "احتمال أن تنحدر إحدى الدول المسلحة نووياً ولها عداوة مع الولايات المتحدة إلى فوضى داخلية، تحمل معها مجموعة جديدة من المخاطر".

 

دوافع التمرد المسلح

 

ويمضي الموقع الأمريكي في السرد ويقول: السنوات، كان قائد فاغنر يكره وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان، الجنرال فاليري غيراسيموف، وكان الشعور متبادلا، كما قال مسؤولون أمريكيون لـ"نيويورك تايمز".

وصرح المسؤولون إن الدافع الرئيسي لتحرك لبريغوجين الأخير كان أمر وزارة الدفاع الروسية، في 10 يونيو، بضرورة توقيع جميع مفارز المتطوعين على عقود مع الحكومة مع الأول من يوليو 2023.

وقال مسؤول أوكراني كبير إن المسؤولين العسكريين الأوكرانيين كانوا يراقبون بريغوجين بعد إعلان 10 يونيو، ويعتقدون بشكل متزايد أنه قد يحشد قواته ضد موسكو، حسب ما ذكرته "واشنطن بوست".

وأشار المسؤول الأوكراني إلى أن قائد فاغنر احتج علنا على أمر وزارة الدفاع، حيث أخذ المسؤولون في كييف حديثه على محمل الجد وتوقعوا أن يتحرك ضد القيادة العسكرية الروسية.

لكن المسؤول الأوكراني قال إن توقيت التحرك "لم يكن واضحا"، مضيفا أنه ليس على علم بمشاركة الولايات المتحدة استخباراتها مع كييف بشأن مسيرة محتملة لقائد فاغنر وقواته.

كانت الأسئلة في واشنطن هي سيد الموقف خلال تلك الساعات: أين وزير الدفاع شويغو ورئيس هيئة الأركان غيراسيموف؟ وأين قوات الجيش من هذا التحرك من جانب فاغنر نحو موسكو؟ وهل يحظى بريغوجين بدعم قيادات عسكرية في الجيش الروسي؟ وهل يحظى بدعم من أي مؤسسات أخرى داخل روسيا؟.

مرت الساعات بطيئة للغاية في انتظار أن تنفجر القنبلة الداخلية، لكن فجأة حدث ما لم يكن متوقعا وما لم يرشح في التكهنات ولا التحليلات، وهو بيان صادر عن مكتب الرئيس البيبلاروسي أليكساندر لوكاشينكو، يقول إن الرئيس يتواصل مع زعيم فاغنر، بموافقة بوتين وبتعليماته، للبحث عن مخرج للأزمة يحقن الدماء الروسية. وتمت التسوية وإنهار أمر ما. ولكن بقي الأمل لدى خصوم الكرملين في تحول لصالحهم.

بنفس هذه الكلمات والألفاظ يتحدث المسؤولون في واشنطن وغيرها عندما يواجهون نكسة.

في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا يوم 16 يوليو 2016. ذكر السياسيون الغربيون: بدا الرئيس التركي القائد الأعلى للقوات المسلحة وفق الدستور التركي، عاجزا عن قيادة وتوجيه المؤسسة العسكرية لمواجهة الانقلابيين ومعتمدا حصرا على قوات الأمن والشرطة والقوات الخاصة في الجيش إضافة طبعا لجهاز الاستخبارات بقيادة ذراعه اليمنى حاقان فيدان والذي كان له الدور الأبرز فيما يبدو في المواجهة. الانقلاب رغم فشله ترك الانقلاب آثاره وأردوغان فقد جزء من سلطته وظهر عاجزا ولن يستطيع مواصلة حكم تركي كالسابق.

في نطاق صراع الولايات المتحدة لوقف توسع سلطة اليسار في أمريكا اللاتينية وفي توقيت لا تفصله سوى أيام عن محاولة الانقلاب في تركيا صوت مجلس الشيوخ البرازيلي الذي سيطر عليه الجناح اليميني الموالي لواشنطن في انتخابات شكك في مصداقيتها يوم الحادي والثلاثين من أغسطس 2016 لصالح عزل الرئيسة ديلما روسيف المنتخبة بأغلبية شعبية كبيرة من منصبها بأغلبية 60 صوتا إلى 20.

وانهي عزل روسيف تولي حزبها اليساري، حزب العمال، للسلطة التي يتولاها منذ 13 عاما. وصفت روسيف، البالغة من العمر 68 عاما في ذلك التوقيت، عزلها بأنه انقلاب على الشرعية، يقوم بها خصومها السياسيون.

بعد ست سنوات ورغم كل العراقيل وبعد محاولات أمريكية للقضاء على المستقبل السياسي للرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي ترأس بلاده على فترتين رئاسيتين بين 2003 و2010، ها هو لولا دا سيلفا، ومن السجن يعود رئيساً للبرازيل، وبتأييد شعبي عارم، بعد أن استطاع خلال فترة ولايته إخراج البرازيل من المديونية إلى الوفرة، وعودته الآن تعني إعادة تموضعها في قلب الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية العالمية وبقيادته.

 

المخابرات الروسية 

 

بعد توقف التمرد أو فشله ذكر في واشنطن: تعتقد وكالات المخابرات الأمريكية أن بوتين أُبلغ أيضا أن بريغوجين كان يخطط لـ"شيء ما"، وصرح مسؤول أمريكي لواشنطن بوست: "على الرغم من أنه ليس من الواضح بالضبط متى تم إخباره، إلا أنه كان بالتأكيد قبل أكثر من 24 ساعة من التمرد المسلح".

ويبقى من غير الواضح حسب السرد الأمريكي، لماذا لم يتخذ بوتين إجراءات لإحباط استيلاء قائد فاغنر على مقر القيادة العسكرية في روستوف أو وقف تحركه تجاه موسكو. 

وعكس تقاعس بوتين عدم تواجد تنسيق رفيع المستوى في الحكومة الروسية و"خصومات داخلية محتملة"، كما يعتقد المسؤولون الأمريكيون.

ولم يواجه قائد "فاغنر" مقاومة تذكر عندما سار هو وقواته إلى "روستوف أون دون" وسيطروا على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية هناك، كما أشار مسؤولون استخباراتيون غربيون وأمريكيون.

ووصفوا ذلك بأنه مؤشر على أنه يتمتع بمستوى معين من الدعم بين القوات العسكرية النظامية أيضا، كأجهزة الأمن الروسية.

 

تداعيات التمرد المسلح

 

يقول المحللون لواشنطن بوست إن التمرد المسلح أخطر تحد يواجه بوتين خلال أكثر من عقدين من الزمن، ويراقب محللو المخابرات لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك.

وقال مسؤولون للصحيفة إنه على الرغم من تراجع قائد "فاغنر"، فإن بوتين سينظر إليه بالتأكيد على أنه "ضعيف".

وذكروا أن أعضاء النخبة الروسية سوف يشككون في قيادة بوتين، ويسألون كيف سمح بحدوث ذلك ولماذا لم يوقف مخططات قائد "فاغنر" في وقت سابق، بحسب حديثهم لواشنطن بوست. 

أما بالنسبة لبريغوجين فمستقبله "غير واضح"، فهو يمتلك نواة صلبة من القوات الموالية، وقال المسؤولون للصحيفة ذاتها إنهم متأكدون من أنه سيظل ينظر إليه على أنه "زعيم فاغنر".

هل كان بريغوجين حصان طروادة الغربي داخل روسيا ومنذ متى؟. سؤال سيطرح يوما ما ولكن الواضح وبالنهاية التي آل إليها التمرد أن الكرملين كان غير غافل، وأن التضحية الغربية بزعيم فاغنر ودفعه إلى التحرك رغم عدم توفر حظوظ النجاح مؤشر ضعف.

التحرك السريع لقوات فاغنر نحو مدينة روستوف للسيطرة على مركز القيادة العسكرية الروسية للجبهة الجنوبية مع أوكرانيا كان هدفه أسر أو تصفية القيادة العسكرية الروسية الأساسية المفترض وجودها حسب الاستخبارات الغربية التي تتابع كل الاتصالات والتحركات عبر الاقمار الصناعية ووسائل أخرى.

عندما دخلت نخبة من مسلحي فاغنر مركز القيادة في روستوف لم يعثروا على أي من القادة الكبار في الجيش الروسي لا وزير الدفاع ولا رئيس الأركان ولا غيره، وهنا يمكن القول أنها كانت الضربة القاضية للتمرد. فالتسلسل المخطط له لبلوغ الهدف تعرض للإنهيار حسب مصادر شيشانية وصينية. في نفس الوقت تمكنت الأجهزة الأمنية الروسية وخاصة جهاز المخابرات من رصد تحركات كل الخلايا التي تحركت لدعم تمرد فاغنر، ومن المرجح أن أسرار هذه العملية لن تظهر سوى بعد حين.

كان المشروع بعد أسر أو تصفية وزير الدفاع ورئيس الأركان الروسي حسب تقديرات لسلوك رئيس فاغنر هو تطبيق المخطط التالي:

1- تحرك الخلايا المسلحة الممولة من المخابرات المركزية الأمريكية ومثيلاتها البريطانية والألمانية لشن حركة عصيان مدني شاملة وثورة ضد الكرملين وتخريب منشآت حيوية واغتيال شخصيات حكومية أو مؤيدة لها.

2- تشجيع تمرد قوى معادية لروسيا في الجمهوريات السوفيتية السابقة وخاصة بيلاروس لصنع ثورة ملونة.

3- دعم المسلحين المعادين لموسكو من الشيشان أو من جمهوريات وسط آسيا بالسلاح ونقلهم من الشرق الأوسط إلى مواقع داخل روسيا.

4- التواصل مع وحدات فاغنر الموجودة في بعض الدول الأفريقية وإغرائها بالمال لتصبح أداة في يد الغرب واستخدامها مع القوى المحلية الموالية لإسقاط الحكومات الأفريقية التي تخلت عن التحالف الغربي وخاصة منها فرنسا.

5- اعتقال أو تصفية القيادات الروسية العسكرية الرئيسية التي أفللت من التصفية في روستوف، لم تجد وحدات فاغنر إلا عددا من ضباط الصف الثاني والثالث في مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية الروسية في روستوف.

 

بداية القصة

 

في عام 2014، أسس بريغوجين مجموعة "فاغنر" بعد أن سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم وأعلنت استعادتها بعد أن كانت قد إلحقت بأكرانيا سنة 1954 عندما كانت جزء من الاتحاد السوفيتي.

وخلال سنوات نفذت المجموعة شبه العسكرية "مهمات سرية" للكرملين على مسارح عمليات مختلفة، وقبل بدء النزاع في أوكرانيا، تم رصد وحدات فاغنر في سوريا وليبيا وفي بلدان أفريقية وفي أمريكا اللاتينية حيث كانوا يتعاونون مع السلطات في تلك الدول.

وبعد التدخل الروسي في أوكرانيا، في 24 فبراير عام 2022، أرسل بريغوجين مقاتليه إلى أرض المعركة، حيث تضخمت المجموعة عبر التجنيد من أماكن مختلفة. 

وبلغ عدد مقاتلي فاغنر المجندين حوالي 50 ألف مقاتل، وفقا لتقديرات أجهزة مخابرات غربية، وتم ذلك غالبا بواسطة بريغوجين شخصيا، وفقا لتقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.

وخلال سنوات، خدمت الأدوار العسكرية لـ"فاغنر" المصالح السياسية للكرملين، كما فعلت شركة بلاك ووترز الأمريكية لواشنطن لأكثر من عقد وأساسا خلال احتلال العراق بد ا من سنة 2003.

ويصف المحلل السياسي الروسي، أندرية مورتازين، التحول في العلاقة بين بوتين وبريغوجين بـ"الأمر المدهش"، بعدما كان قائد فاغنر "صديقا مقربا وأصبح عدوا".

ويشير مورتازين، في تصريحاته لموقع الحرة، إلى أن فاغنر كان بمثابة "قوات خاصة روسية"، تنفذ مهام للكرملين بشكل "فعال" خارج البلاد خاصة في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان.

وكان يفترض على جميع مقاتلي فاغنر توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية لكن بريغوجين رفض ذلك، مما تطور لاحقا في "التمرد المسلح"، وفقا للمحلل السياسي الروسي.

ويوضح مورتازين أن قائد فاغنر "رجل ذكي وليس مجنونا"، لكنه أصبح الآن "خائنا"، ووصلت علاقته ببوتين لـ"نقطة اللاعودة".

ولسنوات، كان قائد فاغنر يكره وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان، الجنرال فاليري غيراسيموف، وكان الشعور متبادلا، كما قال مسؤولون أمريكيون لصحيفة "نيويورك تايمز".

وصرح مسؤولون أمريكيون إن الدافع الرئيسي لتحرك بريغوجين الأخير كان أمر وزارة الدفاع الروسية، في 10 يونيو، بضرورة توقيع جميع مفارز المتطوعين على عقود مع الحكومة، وفقا لتقرير لصحيفة "واشنطن بوست".

 

تفسيرات متناقضة 

 

عجزت وسائل الإعلام الغربية عن تقديم صورة منطقية لما يجري في روسيا دفعها إلى السقوط في تناقضات. الخبير العسكري والاستراتيجي، العميد ناجي ملاعب، يوضح أن تأسيس قوات "فاغنر" جاء لتنفيذ "مهام خاصة" تخدم مصالح الكرملين، دون ظهور القيادة السياسية الروسية في المشهد.

ومنذ تأسيسها تنسق "فاغنر" كافة تحركاتها مع السلطات الأمنية المختصة، و"لا تغرد خارج السرب منفردة"، وجاء تمردها المسلح "مدعوما من قوى سياسية واقتصادية" داخل روسيا، وفقا لحديثه لموقع "الحرة".

ويشير الخبير الاستراتيجي إلى "ضلوع بعض القيادات العسكرية والأمنية في التمرد المسلح"، مستبعدا أن تكون تحركات بريغوجين "منفردة".

الأمر نفسه يؤكده الخبير المختص في الشأن الروسي، نبيل رشوان، الذي يرى أن أعضاء من طبقة "الأوليغارش" قد دعموا تحركات قائد "فاغنر" بعدما أذتهم الحرب في أوكرانيا.

وأضرت سياسات بوتين بـ"الأوليغارش"، بعدما أجبرهم على دعم الحرب على أوكرانيا، مما تسبب في وضعهم على قوائم العقوبات الغربية واحتجاز أموالهم وممتلكاتهم في دول عدة، وفقا لحديثه لموقع "الحرة".

ويتفق مع هذا الطرح، الخبير الاستراتيجي، محمد اليمني، الذي يرجح أن تكون هناك أطراف أخرى في "التمرد المسلح" بعضهم من الداخل، وآخرين من خارج روسيا.

ويشير لإمكانية تورط بعض الأوليغارش الروس في حركة التمرد المسلح لأنهم "أحوج ما يكون لأي مخرج للحرب في أوكرانيا وهزيمة بوتين"، حسب تصريحاته لموقع "الحرة".

وفي سياق متصل، يرجح الباحث السياسي المقيم في فرنسا، طارق عجيب، كون تمرد قائد "فاغنر" كان يحظى بدعم كل من يعارض الرئيس الروسي في محاولة لإسقاط نظام بوتين.

وتشير المعطيات إلى أن بريغوجين "لم يتحرك منفردا" على مستوى الداخل على الأقل وتصريحاته المهاجمة لقادة الجيش كان يتبناها بعض القيادات العسكرية ضمن "اختلاف الرؤي بشأن التعاطي مع العملية العسكرية في أوكرانيا"، وفقا لحديثه لموقع "الحرة".

ويشير الباحث السياسي إلى أن هناك بعض الشخصيات في القيادة العسكرية الروسية لا تتوافق مع رئيس الأركان، بينما رفض البعض الآخر "العملية العسكرية" في أوكرانيا، بحسب ما يسميها الكرملين.

لكن على جانب آخر يستبعد مورتازين، تورط "قوى سياسة أو اقتصادية" في تمرد "فاغنر" المسلح.

ويقول المحلل السياسي الروسي إن "الأوليغارش" داخل البلاد يؤيدون بوتين، ومن يعارضه فهو "هارب أو مطرود" خارج روسيا.

ويرى محمد اليمني في التمرد المسلح القصير "بوادر انشقاق" قد يتصاعد داخل المؤسسة العسكرية الروسية.

وتمرد "فاغنر" مؤشر على "بداية عصيان على بوتين"، نتيجة الغليان الداخلي بعد أن ورط جيشه وبلده معه في حرب استنزاف فاشلة وممتدة ولم يعد لها هدف أو مبرر أو نهاية، على حد تعبيره.

وهجوم بريغوجين على الرئيس الروسي ومن قبله القيادة العسكرية، يكشف عن دخول المؤسسات الروسية "مرحلة التخلخل"، وأن قبضة بوتين الأمنية الحديدية بدأت تتراخي وتضعف وتهتز، وفقا للخبير الاستراتيجي.

ومن جانبه يصف طارق عجيب روسيا بـ"دولة مؤسسات" تفرض على الجميع الالتزام بقرارات القيادة السياسية.

وبعد إعلان بوتين أن بريغوجين "خائن" تخلى عنه الكثير من مؤيديه السابقين في الداخل، ومازال من المبكر معرفة "من يقف وراء التمرد المسلح" من الخارج، وفقا للباحث السياسي.

وحسب حديثه فإن مجموعة "فاغنر" تتشكل من مرتزقة لا يقاتلون بـ"عقيدة وطنية" وهمهم الأكبر هو "المال"، ولذلك من السهل التأثير عليهم للانفضاض من حول بريغوجين.

 

هل انتهي دور فاغنر؟

 

يوضح الخبير العسكري العميد ناجي ملاعب أن بوتين لم يذكر في خطابه اسم "بريغوجين" قط، وتحدث عن "فاغنر" مرة واحدة، مرجعا ذلك لـ"حاجة الرئيس الروسي للمجموعة لتنفيذ مهام أخرى".

وبعد خروج "بريغوجين" من روسيا ووصفه بـ"الخائن" فسوف يلجأ بوتين لتعيين قائد جديد لـ"فاغنر" حتى تستكمل مهامها، وفقا للخبير الاستراتيجي.

وسيكون من الصعب "إنهاء عمل فاغنر"، لكنها لن تشارك مستقبلا في أي تحركات عسكرية مشتركة مع القوات النظامية الروسية، خاصة في أوكرانيا، حسب ملاعب.

ومن جانبه يؤكد أندرية مورتازين، أن "فاغنر" سوف تستمر في أداء مهام عملها، وسيتم ذلك من خلال استبدال قائدها، لتستمر كشركة خاصة، أو دمجها داخل الجيش الروسي.

لكن على جانب آخر، يرجح طارق عجيب "انتهاء دور فاغنر"، وبقائها خارج دائرة الأحداث.

يشير أندرية مورتازين، لـ"قوة نظام بوتين"، ويقول "نظام الحكم في روسيا لن يسقط أو يتأثر بالتمرد".

وحسب حديثه فإن بوتين يحظى بدعم أكثر من 70 بالمئة من الروس، بينما لا يعرف الناس قائد "فاغنر" ولا يمتلك أي شعبية ولا خبرة سياسية.

ويشير إلى أن طبقة "الأوليغارش" ما كانت تسعى لوصول بريغوجين للحكم لأنهم "يخافون منه أكثر من بوتين".

وبريغوجين "أخطر بكثير" من بوتين الذي يراه الغرب "شيطانا وديكتاتوريا واستبداديا"، وفقا لحديث المحلل السياسي الروسي.

لكن على جانب آخر، يشير نبيل رشوان إلى "اهتزاز صورة بوتين" داخل البلاد وخارجها، بعد "طعنة غير متوقعة" من حليفه الذي يدعمه في سوريا وليبيا وأفريقيا.

ووضع التمرد "بوتين في موقف صعب" وسوف يدفع ثمن "استعانته بمجموعة غير رسمية مسلحة"، للحرب في أوكرانيا وتحقيق مصالحه الخارجية، حسبما يذكر الخبير بالشأن الروسي.

ويرى الخبير في الشأن الروسي أن القوات الأوكرانية سوف تشدد من هجومها المضاد، ويقول "هذا سيشجع حلفاء أوكرانيا في امدادها بالسلاح للتعجيل بإنهاء الحرب وانتصار كييف".

وبعدما كشف التمرد القصير عن "ضعف نظام بوتين"، فقد تحاول بعض المناطق الروسية الاستقلال عن الاتحاد الروسي، ويمكن أن نشاهد قريبا "تصاعد النبرات الداعية للانفصال عن روسيا"، وفق رشوان.

ومن جانبه يقول محمد اليمني، إن روسيا بعد "التمرد" ليست كما قبله، بعدما تسببت الاضطرابات رغم قصرها في "محو الهالة التي كانت تحيط ببوتين"، وكشفت أن نظامه "أضعف كثيرا مما يتظاهر به".

و"التمرد المسلح" يمثل منعطفا في تاريخ روسيا، وسيكون هناك وقفة من بوتين ونظامه لإعادة تقييم الأوضاع بشكل عام في الداخل الروسي وخارجه، حسب اليمني.

ويرجح الخبير الاستراتيجي أن يكون للتمرد تداعيات على الجبهة الأوكرانية، ويقول إن روسيا ستحاول إثبات أن التمرد لم يضعفها، وبالتالي ستزيد "عملية التصعيد".

ويتفق معه طارق عجيب الذي يؤكد أن "التمرد" سيلقي بظلاله على الحرب في أوكرانيا، متوقعا "تصعيد هجوم موسكو" حتى لا تفكر كييف في استغلال ذلك لتحقيق مكاسب ميدانية.

 

خطوات بوتين

 

يتوقع ناجي ملاعب أن يتحرك بوتين بعد "التمرد" على محاور عدة "داخلية وخارجية" على نحو متوازي، وبداية سيقوم بإصلاحات، وإعادة تشكيل للقوى والأجهزة الأمنية والاستخباراتية.

وستعمل الأجهزة الأمنية الروسية خلال الفترة المقبلة على "تقديم تقارير عن مؤيدي تحركات بريغوجين لإخراجهم من مواقع القيادة وزجهم بخطوط التماس بالحرب، لمنع تشكيلهم قوى قد تهدد بوتين مستقبلا، وفقا للخبير الاستراتيجي.

ولن يكون الجو السياسي والاقتصادي داخل روسيا بمعزل عن "تداعيات التمرد"، وستكون هناك تغييرات على كافة المستويات، وقد يكون هناك توجه لقمع الحريات وإسكات أي صوت مضاد للسلطة باستخدام "القبضة الحديدية"، حسب ترجيحات ملاعب.

ويرى أن بوتين سوف يحافظ على وزير الدفاع ورئيس الأركان، حتى لا يخل بـ" ثقل القوى العسكرية النظامية الروسية".

وفيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، فسوف يسارع بوتين لتحقيق "نصر ما في مكان ما"، لإلهاء الشارع الروسي، وفق ملاعب.

ويشير ملاعب إلى "خطورة التمرد المسلح رغم قصر مدته"، ويقول "كان من الممكن أن نكون أمام قوات دعم سريع جديدة، وتكرار لسيناريو السودان، لكن السلطة السياسية الروسية استدركت هذا الوضع وحاولت حل الأزمة وإنهاء الاضطرابات.

الآن وبعد أحداث الأربع وعشرين ساعة الأخطر في تاريخ روسيا الحديث، قد يكون الأمر الوحيد المؤكد هو أن روسيا بوتين قد تغيرت للأبد وبشكل جذري، فكل شيء بعد هذا التمرد المسلح لن يكون كما كانت عليه الأمور قبله. فالجرح الذي تسببت فيه الأحداث غائر، وبوتين لا يعرف عنه التسامح مع "الخيانة"، وهو نفسه استخدم المصطلح في توصيف ما حدث، لكن لن تتضح تبعات ما حدث إلا بعد أن يستقر الغبار وتنكشف الأطراف المحركة للتمرد.

 

عمر نجيب

[email protected]